النقد إحدى وسائل المجتمع الضرورية، دونه تُضحي ثقافة المجتمع وعقول ذويه، وكل شيء فيه عرضة لاستغلال الأفراد والجماعات، دون النقد البناء تصبح الدروب تُودي بنا إلى مجهول، إن النقد إحدى وسائل الاحتساب الشرعي؛ لكنه لا يكون شرعيا، إذا كان سلاحا في يد طائفة دون أخرى، وفي مُكنة جماعة دون غيرها، لا يكون شرعيا حين تهبّ الجموع في الدفاع عنه - وإن كان خطأ - إنْ صدر ممن يميلون إليه، ويحبونه، وإن فاه به غيره تنادوا إلى مهاجمته، ومحاربته عبر كل وسائل الإعلام الممكنة، إنه نقد بناء، صدر من ذا أوذاك، وليس مرة نقدا بناء، وأخرى تشهيرا بغيضا. بعضٌ ممن يحيط بي هم ممن يصنفون أنفسهم بالإسلاميين وأهل الحق، أو ممن رضوا بهذا التصنيف للمجتمع، وحسن في عيونهم وأذهانهم، وقنعوا به، وهم ثُلّة قليلة، فمعظم الناس اليوم - بحمد الله- تَزْوَرُّ عن مثل هذه التصنيفات، وبما أنني أعاشرهم، وأجالسهم، وأستمع إلى أقاويلهم، فإنني أقدم شهادة عنهم، أرجو أن تكون صادقة، هذه الشهادة هي أنني أرى هؤلاء الإخوان هم أكثر الطوائف في المجتمع محاربة للنقد الموجه إليهم، فغالبهم - بل معظمهم - ينظرون إلى النقد لا على أنه احتجاج على بعض الممارسات الخاطئة من أي إنسان كان، إنهم ينظرون إليه على أنه حرب على الإنسان المسلم المتدين، هكذا ينظرون للنقد. والغريب في حالهم أنهم يطيرون فرحا حين يصدر نقد فيمن يعدونه ندّهم، ويُبادرون إلى نشر ذاك النقد، يسعون جاهدين عبر وسائلهم الممكنة، في إذاعة ما صدر في حق المخالفين لهم، مرة عبر مواقع الصحف الإلكترونية الممثلة لهم، وتارة عبر البريد الشبكي، وما نزال نذكر جميعا فرحهم وسرورهم بما قاله الغذامي عن الليبرالية، الغذامي الذي كان - وما زال - مناهضا لهم، أضحى رجلا يُعتمد عليه حين رمى بقوسهم، واحتطب بحبلهم، لقد ظهروا بمظهر البشر العاديين، فليعترفوا أنهم بشر، وليسوا أنبياء ينطقون بالحق فقط، ليعترفوا لنا أنهم يُمارسون الخطط التي يُمارسها غيرهم، ليقولوا لنا -ويصدقوا وهم دعاة الصدق - إننا كالبشر، نغضب حين نُنتقد، ونفرح حين نرى غيرنا ينتقد، ليقولوا لنا: إنهم يركبون أي مركب - خطأ كان أو صحيحا - حينما يتعلق الأمر بمخالفيهم. أيها الإخوة أنتم تُصنفون الناس بناء على ما فهمتموه من أقوالهم، وتؤمنون بتصنيفاتكم كما يؤمن المسلم بأركان دينه، لا تقبلون حولها حوارا ولا مناقشة؛ لكنكم تفزعون أيما فزع حين يُقال في رمز من رموزكم قريبا مما قلتموه، الآخرون مباحون، مرة محاربون للدين، ومرة أعداء لأوطانهم، ومرة عملاء، ومرة فاسدون أخلاقيا، وأخرى تَمْييعيون، فإذا ما كان التعامل مع من تحبون بمثل نهجكم وطريقتكم غضبتم، وأذكرتني غضبتكم قول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهمُ ..... في النائبات على ما قال برهانا ترددون حين تنتقدون الآخرين مقالة عمر بن عبد العزيز: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، هذا ما تنتظرونه ممن توجهون النقد إليه، تنتظرون منه أن يشكر سعيكم، ويحمد معه أمركم، فإذا ما كان النقد موجها إليكم تغيّرت وجوهكم، وأضحى المقالة: غضب الله على من...، حين يصدر النقد فيمن تميلون إليه يتغير اسمه، فيضحي تشهيرا، تسمون النقد بغير اسمه، تلك نظرة كثير منكم، مع أنّ مخالفيكم غالبا لا يتسلحون بالدين ولا يتدثّرون به، في حين أنكم تضعونه أول أسلحتكم في الهجوم، فما بالكم ترضون للناس ما لا ترضونه لأنفسكم؟ ما بالكم لا ترون في قوله - عليه الصلاة والسلام -:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" مثلا ينطبق عليكم؟ ما بالكم قبل ذلك كله لا ترون في قوله تعالى : (تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) نموذجا يُمكن أن يصدق عليكم؟ فإن لم ترضوا أنّ هذا ولا ذاك يصدق عليكم فخذوا بحكمة ذلك الأعرابي حين قال: استر عورة أخيك لما يعلمه فيك. إنّ إخواننا يعيبون على الآخرين شِلليتهم، ويغفلون أنهم يُمارسونها كذلك، فهم إن نُقدوا ثارت ثائرتهم، وتنادوا نصرة للحق وإزهاقا للباطل، وهم أكثر الناس حديثا عن الوحدة والالتفاف والاجتماع وعدم الفرقة؛ لكنهم أكثر الجماعات ممارسة لضد ذلك، فتفرقوا فرقة، لم تقع فيها التيارات الأخرى التي يصنفونها - كما يحلو لهم - بأنها ليبرالية أوحداثية أو...، تفرقوا في أسّهم الذي له قاموا، في حين بقي الآخرون - على اختلافهم - يُمثلون إستراتيجية واحدة، ورؤية واحدة، وهدفا واحدا، وأعزّ ما فيهم أنهم لا يتحاربون باسم الله تعالى ودينه. تلك نظرتهم، وتلك تدابيرهم مع إخوانهم، ويخطون خطوة أخرى أكبر حين يقولون لك: نحن ممثلو السلف في زمن غربة الدين، يقولون لك ذلك، فإذا ما قارنتهم بأبي الحسن - رضي الله عنه - رابع الخلفاء الراشدين هالك الأمر، حين تُقارن أقاويلهم بمخالفيهم ممن كانوا معهم بقول أبي الحسن في الخوارج:" إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم ببغيهم علينا" (البداية والنهاية 7/ 231) تهولك المفارقة الكبيرة بين السلف وممثليهم اليوم، يهولك أن يصف الإمام الخوارج بالإخوان مع أنهم كفروه وكفروا المسلمين معه، واستحلوا دماءهم، ثم تأتي لإخواننا اليوم فترى كيف ينظرون إلى مخالفيهم، وإن كانوا بالأمس يرونهم قادة لهم ورموزا لتوجهاتهم! إن مبدأ التدافع وسنته في قوله - تعالى -: (ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ينطبق على التيارات التي وُزّع المجتمع ظلما عليها جميعا، وينطبق أكثر على التيارات التي خصت نفسها من بين كل التيارات بتمثيل الدين، واختلفت وتباينت مواقفها فيه، إنّ نقدهم لغيرهم من باب هذا التدافع، ونقد غيرهم لهم من ذلك الباب نفسه، وهم إن رأوا أنفسهم ممثلين للسلف فلغيرهم من إخوانهم المخالفين لهم أن يدعوا ذلك.