يقول العامّةُ في بلادي: الله لا يورينا غلاك ونص معناه للفصحى هو: نسأل الله ألا يُرينا حقيقة محبتك في نفوسنا، الكره تُظهره فلتاتُ اللسان، والمحبة يُظهرها غيابُ المحبوب، هكذا تجري قواعدُ السنن الاجتماعية، ومعرفةُ الناس للناس... وما سبق فإنه مقدمة؛ وما سيأتي فهو شرح تزخر الحياة بالكثير من بسمات اللقاء، وأنّات الفراق: وما كلُّ لقاءٍ يشقُ بسمة، ولا كل فراقٍ يُنزل دمعة؛ وقد يحصلُ العكسُ للعكس على أن أشهرها فُرقى - بعد الموت - هي فُرقى الطلاق والأغلب لها هو الارتياح ونزوح الهم وتجدد الحياة - بل إن الله تعالى بشرنا بأن عاقبتها سعةً وغنىً؛ إذ يقول تعالى" وإن يتفرقا يُغن الله كلاً من سعته". فحين تضنكُ النفس، ويصعبُ العيش، ويتوقفُ المسير - فإن الطلاق حل لاستئناف ضربتها وأنا أحسب الضرب نوماس.. وطلقتها يوم أفخت العقل مني الحياة وتجددها على أن هنالك إضبارةً أخرى لهذا الشأنِ مُغايرةٌ - ولكل قاعدة شواذ - تقول: بأن الكونَ خيرٌ من البوْن نعم، إنها نافذة: من طلّق فتبعت نفسُه مُطلقته بعد ذلك وسأكتفي منها بالإطلال على حالات أهل الشعور الإمضائي؛ أي الذين أمضَوا نهاية قصتهم: بدمعة أو قصة أو قصيدة، وأما التي طوتها الصدور في القبور.. فلا نعلمه لا ندمَ على جبر فالإنسانُ في الجبر - كالموت مثلاً - يكتفي بالحزن والتسليم، فلا حيلة فيه؛ إذ لا اختيار معه ولكن الندم يكون فيما بين الجبر والاختيار: كالإعراض عن الصواب، أو القرار بين مُكْثٍ أو رحيل بعد هذا فلعلنا الآن ندلفُ إلى ذِكر أشهرِ التائبين بعد خروج القرار من أفواههم فمن هؤلاء كان عبدالله بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - والذي كان زوجاً لعاتكة بنت زيد، فأحبها حباً شديداً صرفه عن جهاده ونفسه، فأمره والده (أبو بكر الصديق) أن يُطلقها، ففعل براً بأبيه وعقوقاً لقلبه !ثم إن نفسه قد ضاقت عليه بعد حبيبته وزوجته، فقال يرثي عهدها: لها خُلُق جَزْلٌ ورأي ومنطِقُ وخَلْقٌ مصونٌ في حياءٍ ومُصَدَّقُ فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تُطَلَّقُ فسمعه أبو بكر - رضي الله عنه - فرقَّ له، وأمره أن يُراجعها، ففرح حينئذ عبدالله وقال من فوره: أُشهدك أني راجعتها ثم أعتق غلاماً له اسمه (أيمن)، وأهدى إلى عاتكة حديقةً له حين راجعها.. فيا لله.. كيف يفعل الحب في قلوب الرجال! أتبكي على سعدى وأنت تركتها.. فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع أما عن أشهر الآبقين من هذه النعمة بالاختيار فقد كان: الوليد بن يزيد؛ إذ طلّق زوجته (سُعدى)، فلما تزوجت غيره اشتعل قلبه ولهاً عليها وشوقاً لها، فاستدعى أشعباً(الطفيلي) وقال له: هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرة آلاف درهم، قال: أقبضنيها، فأمر له بها، فلما قبضها، قال أشعب: هات رسالتك، قال: ائتها، فأنشِدْها: أسعدى هل إليك لنا سبيل ولا حتى القيامة من تلاق بلى ولعل دهراً أن يؤاتي بموتٍ من خليلك أو فراق قال، فأتاها أشعب، فاستأذن عليها، فأذنت له، فدخل، فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب ؟ فقال: يا سيدتي، أرسلني إليك برسالة ثم أنشدها الشعر، فقالت لجواريها عليكن بهذا الخبيث فقال: يا سيدتي إنه دفع إلي عشرة آلاف درهم، فهي لك، واعتقيني لوجه الله، فقالت والله لا أعتقك أو تبلغ إليه ما أقول لك، قال: يا سيدتي فاجعلي لي جُعلا، قالت: لك بساطي هذا، قال: قومي عنه، فقامت: فأخذه، وألقاه على ظهره، وقال هاتي رسالتك، فقالت: أتبكي على سعدى وأنت تركتها فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع ! فلما بلّغه الرسالة ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأخذته كظمة، فقال لأشعب: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن أقتلك، وإما أن أطرحك من هذا القصر، وإما أن ألقيك إلى هذه السباع فتفترسك ! فتحيّر أشعب وأطرق ملياً ثم قال: يا سيدي ما كنت لتعذب عيناً نظرت إلى سعدى، فتبسم وخلى سبيله. وتبع الوليد في طلاق الندم الشاعرُ الأموي المشهور(الفرزدق )، إذ طلّق زوجته (نُوار)، ثم ندم على ذلك، فأخذ ينتف لحيته ويقول: ندمت ندامة الكسعى لما غدت مني مطلقةً نوار وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار ولو أني ملكت بها يميني لكان علي للقدر الخيار ومن عجيب ما اطلعتُ عليه هو أن الإمام الكبير " ابن الجوزي " كان قد طلّق زوجه ثم تبعتها نفسه؛ بل وقال فيها أبياتاً سائرةً في الزمان.. إذ أنشأ يقول: ترفق رفيقي هل ترى نار دارهم أم الشوق يذكي ناره ويثيرها أعد ذكرهم فهو الشفاء وربما شفا النفس أمر ثم عاد يضيرها كذلك فإنّ الشعر الشعبي قد دوّن عدداً من حالات الحب بعد الطلاق، ومنها قصة شرعان بن رمال الشمري في طلاقه لزوجته، وقصيدته الشهيرة في التحسر عليها، والتي منها هذه الأبيات: لي بنت عمٍ ماوطت درب الأدناس مادنست يوم النساء يدنسنّي ضربتها وأنا أحسب الضرب نوماس وطلقتها يوم أفخت العقل منّي يا ناس كيف العين تبكي على ناس وكيف العيون بلا رمد يسهرنّي لو ينشكي حبه على ذيب الأخماس يسرح مع الطليان ولا يجفلنّي ولو ينشكي حبه على الطير قرناس أضحى الضحى بموكره مستكنّي ولو ينشكي حبه على قب الأفراس عيّن نهار الكون لا يفزعنّي ولو النجوم اللي مع الليل غلاس يدرن ما بقلبي لقلبه يكنّي تلقى سهل جُبَّة هضاب ومنحاس وحتى الجبل بالقاع صار متثنّي ولو البيوت مشددينه بالامراس عيّن مع الخفرات لا ينبننّي نطيت راس ضراس من فوق الأطعاس ولا لوم طراد الهوى لو يجنّي وهليت دمع العين وأوميت بالراس ورافقت كور العيس ياما ابعدنّي وممن كان الطلاق عليه ضيقاً لا سعةً الشاعر المعاصر علي الحميدي، والذي صادف أن رأى مطلقته مع أخيها في مستوصف يدعى بمستوصف " القمة " فقال أبياتاً حزينة مطلعها: صادفتها صدفة بمستوصف القمة بالعين راعيتها لحظة وترعاني إلى أن قال متوجعاً على أيام سلفت: قمت أتذكر زمان فات وألمه لا عاده الله نصيب يوم وداني هلت دموع العيون ولا بقى همه مما جرالي نسيت آلام الأسناني معها أخوها وضع كفه على فمه كنه يقول الله الستار ياقاني نفس الملامح ويشبه دمها دمه سبحان ربي خلقهم دعج الأعياني يدري بحبي وتدري أمه وعمه حال القدر بيننا والحب سلطاني يبكي ويمسح دموع عيونه بكمه يبكي علشانها ويبكي علشاني والحب بلوى ومنه النفس مهتمه وش حيلتي والغضي دمي وشرياني جسمي يجي ويروح والقلب من يمه القلب عنده يبيه ولايبي ثاني أقسم بربي وأنا لي مذهب وذمه لا أعيش أحبه ولو حبه علي جاني شربت كاس الهوى ورويت من سمه مامت وارتحت ولاهوب اللي أحياني أضحك مع الناس والأحزان منظمه كني سعيد وأنا مبلي بالأحزاني عندي وصيه وتالي الهرج يايمه الموت حق على القاصي مع الداني وإن صرت فوق النعش والناس ملتمه مروا على بيتها وتشوف جثماني قولوا لها الموت زم صويحبك زمه ما مات حبه ولو هو بالنعش فاني شلناه للمقبره وادعي له القمه خوذي ثوابه وجودي له بالإحساني ياالله يالمقتدر ياكاشف الغمّه تفرج لمن حالته دوماً بنقصاني أما عن نقيض هذا المنحى الشعوري وطريفه، فهو في أن يتبع قلب المطلقة زوجها السابق، ومن ذلك ما قد حصل للشاعرة نورة الحوشان التي طلقها زوجها، فبقيت محبته في قلبها، وقالت بإثرها هذه القصيدة الشهيرة: يا عين هلي صافي الدمع هليه واليا انتهى صافيه هاتي سريبه يا عين شوفي زرع خلك وراعيه شوفي معاويده وشوفي قليبه من أولن دايم لرايه نماليه واليوم جيتّهم علينا صعيبه وان مرني بالدرب ما اقدر أحاكيه مصيبة يا كبرها من مصيبة اللي يبينا عيت النفس تبغيه واللي نبي عيا البخت لا يجيبه وعلى أية حال، فإنّ المرء يزهدُ بما في يده؛ إذ إنّ أزهدُ الناس في الشيء أهلُه – كما يُقال -، وكذلك فإن النفس تهفو إلى المفقود وتتولع به وتحسُهُ جميلا.. والمحظوظ جملةً هو من قاسَ قبل أن يقسو، ووزنَ قبل أن يبيع، وتَصَوبَ قبل أن يُصيب !.