بعد الحلقات الخمس السابقة نأتي اليوم بمثابة الصيد الثمين في قراءة «الرياض» للمشهد الجزائري الشائك.. ونقصد بذلك هو حوارنا مع عباسي مدني.. مؤسس الجبهة الإسلامية للانقاذ والرجل الأول فيها.. تلك الجبهة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم إقامة الدولة الإسلامية عام (9991م). وعباسي مدني رغم اتصافه بالمنهج العملي البراغماتي لتحقيق أهدافه.. وجدله الواسع مع خصومه العسكر وأعدائه العلمانيين.. إلا أنه إن لم يكن يحظى بحب الجميع فهو بلا شك يمثل الرقم الصعب الذي يحسب له ألف حساب في المعادلة السياسية الجزائرية.. كيف لا وهو الرجل الذي له حسبان كبير لدى قوى دولية واقليمية فاعلة.. رجل يعرف متى يهادن ومتى يهاجم.. ويحدد بدقة من يصالح ومن يعادي.. لا يقطع حبال الوصل وطرق الاتصال مع كافة الأطراف المعنية مهما وصلت الأمور إلى درجة الأزمة واللاعودة.. وفي حوار «الرياض» مع عباسي مدني اعتبر أن مسعى المصالحة لابد أن يرتبط باجراءات من طرف السلطة كرفع حالة الطوارئ والافراج عن كافة المسجونين واعطاء الحرية التامة للشعب ليقول كلمته. ودافع مدني عن مشروع المصالحة الوطنية معتبرها أمراً حتمياً لا مناص عنها. وبرغم تفاؤله إلا أنه حذر من كل محاولة يتم فيها اقصاء جبهة الانقاذ الإسلامية مرة أخرى كشرط لتحقيق المصالحة. وشن هجوماً لاذعاً ضد «الاستئصاليين» داخل السلطة الذين يروجون لابعاد الإسلاميين من المعترك السياسي. وشدد الرجل الأول في الانقاذ على أنه لا مصلحة بدون أن ينادي الجزائريين لبعضهم البعض مطالباً كافة الأطراف التحلي بالمسؤولية التاريخية لانقاذ الجزائر من محنته. وحول تصوره ازاء المصالحة وبلورة موقف معين تجاهها قال مدني «انها تحتاج إلى خطوات اجرائية جدية عبر فتح قنوات حوار بين جميع القوى الفاعلة لافتاً إلى أنه لا مجال للتلاعب بالالفاظ فالجزائر تعيش أزمة خانقة. وفي رد على سؤال حول عزم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة اجراء استفتاء حول المصالحة أيد عباسي مدني ذلك مشيراً إلى أن من أدبيات حكم السياسة الناضجة أن ينطلق مشروع المصالحة إلى الشعب نفسه. وعن محاكمة رجال الأمن الذين قاموا بتجاوزات ضد المعتقلين فضل ارجاء المسألة إلى وقت آخر مضيفاً «أنه إذا أدرنا المصالحة لابد أن نتناسى أمر نفوسنا أمام حاجة الوطن». وفي نهاية الحديث سألناه حول مستقبل حزب جبهة الانقاذ الإسلامية ما بعد تحقيق المصالحة فتجنب التعليق بطريق مباشر عن ذلك.. قائلاً إن «الجزائر في ذلك الوقت ستكون دولة الجميع والعدل ودولة الشعب وليس لدينا مشكلة في من سيحكم من؟» وزاد في كلامه «إننا لسنا بالذين يتخاصمون من أجل الكراسي». وفيما يلي نص الحوار: المصالحة الوطنية ٭ يدور حديث في الجزائر عن إجراء مصالحة وطنية انتم كجبهة الانقاذ كيف تقرأونها؟ وماذا ينبغي للجزائريين أن يفعلوه للوصول إلى المصالحة؟ - إن المصالحة الوطنية صارت أمراً حتمياً بالنسبة إلى الشعب الجزائري كله لم تعد موضوع نقاش ولا خلاف بحال لأنها من مقتضيات مستوى نضج القضية الجزائرية وما انتهت إليه أحداثها ومن ثم فهي ستكون إن شاء الله نهاية محنة وبداية رحمة، نهاية محنة عانى منها الجزائر طيلة الأربعينية التي مضت وهي بداية رحمة عندما تكون المصالحة حقيقية نابعة عن إرادة الشعب الجزائري بأكمله، عندما يتعاون كل الجزائر رجالاً ونساءً على اختلاف شرائحهم وعلى اختلاف آرائهم واتجاهاتهم ينبغي أن نجتمع وأن نتعاون من أجل وضع نهاية لهذه المأساة.. حيث تكون بداية صحيحة لعهد جديد عهد النهضة الشاملة المتناسبة مع تطورات عالم العصر الجديد، ومن ثم ينبغي للجزائريين، كل الجزائريين والجزائريات، أن يطرحوا جانبا عوامل الخلف والاختلاف وعوامل النزاع والشنأنات متجهين كلهم نحو مستقبل الجزائر كما ينبغي أن تكون عليه الجزائر بناء على امكاناتها البشرية والطبيعية والاستراتيجية والتاريخية والمستقبلية، إذاً المصالحة هي نقلة نوعية في اتجاه السلم والاستقرار والأمن والوئام والتكامل والتعاون في اتجاه آفاق مستقبل زاهر. ٭ بالرغم ن صعوبة تنفيذ المصالحة الوطنية وتعقيدات توجهها على الصعيد السياسي والأمني والقضائي.. إلا ترون أن تفاؤلكم باجرائها مبالغ فيه؟ - لا شك أن هذا أمر عظيم لا يمكن أن يتحقق الا عندما تتوفر كل الجهود وأن تجند كل الامكانات وان تفعل جميع الطاقات، حيث في ذلك يتنافس المتنافسون كفانا خلفاً واختلافاً وكفانا وشاحات ونزاعاً هذا ما ينبغي أن يقوله كل الجزائريين مهما كانت أحوالهم وظروفهم من المحنة ومهما كانت أوضاعهم من التصفيات من حيث هم ضحايا ما مر بالجزائر في هذه الحقبة الأليمة. التطبيق ٭ ماذا ينقص مبادرة الرئيس بوتفليقة فيما يتعلق بالمصالحة كي تكون صالحة ويمكن تطبيقها على أرض الواقع؟ - الحقيقة إرادة الشعب بعد ارادته سبحانه وتعالى متوفرة فقط تحتاج إلى ما يجمع الشمل ويبلور الطريق ويحدد المراحل مبدئياً واجرائيات باتجاه الحلول الناجعة التي تكون في مستوى متطلبات نهضة شاملة تتناسب مع الظروف العالمية وتحدياتها. ٭ توجد دوائر داخل السلطة ترى أن المصالحة ممكنة.. ولكن مع عدم السماح لكم الدخول في المعترك السياسي.. ما هو موقفكم؟ - إنه موقف متعارض مع مبدأ وأساس المصالحة كيف يريدون المصالحة مع الكل ثم يقصون البعض، وهذا البعض كان من أكبر المتضررين بالوضع الحالي، إن الحديث عن مثل ذلك مجرد هراء، إذاً كيف تتحقق المصالحة بدون عدل وبدون تراض إذا أراد الجزائريون أن يخرجوا من ورطة خطيرة مما هي فيه بلادهم أن لا يبقوا عابثين بمصير شعبهم وأجيالهم من هؤلاء الذين في السلطة بالنسبة للشعب الجزائري، ينبغي أن يخضع الجميع إلى معايير الحق والصواب والعدل والشرع والشرعية والا نصبح نعوم في فوضى الرغبات ومتى يمكن تحقيق رغبات الجميع وفيهم من يريد الشر وفيهم من يريد ما هو أكثر شراً كيف يتحقق الخير لهذا الشعب وكيف يتحقق له الاستقرار وكيف يعود له القرار. ٭ إذاً هل يمكن أن يتعرض مشروع المصالحة إلى الفشل في ظل هذا؟ - أنا لا أرى مصالحة بعد الفضيحة أرى أن الجدية في عملية المصالحة إذا كانت عملية جادة لابد لها من الحق والعدل والشرعية والفضيلة ولابد من الحزم في تناول القضايا بمنهجية علمية موضوعية لا تتصرف فيها ذاتية الأهواء. الاقصاء ٭ هل نتوقع أن يتم اقصاؤكم مرة أخرى كشرط لتحقيق المصالحة؟ - لا يستطيع أحد أن يقصينا يا سيدي الكريم بالمصالحة إذا كانوا يريدون المصالحة من هذا الذي يستطيع أن يقصي من لا أحد يقصي الآخر لأن المصلحة تقتضي أن ننادي لبعضنا وأن نشارك الكل وأقول بأي حق وبأي معيار يتم ذلك؟؟ ٭ أنكم مارستم العنف وأدخلتم البلاد في أزمة حصدت الكثير من الضحايا وأنكم أردتم للجزائر نظاماً إسلامياً اقصائياً لا يقبل الآخر؟ - نحن مارسنا وليس هم الذين مارسوا العنف من أنتم وما هو عنفكم في هذا الحال ندخل في مزايدات لا يمكن أن ننتهي إلى نتيجة وهذا الذي يريدونه. ٭ إذاً الطريق مسدود في ظل وجود اختلاف حاد بينكم والسلطة؟ - أبداً لأن الطريق صار واضحاً ومن أراد سده لا يستطيع أن يتحمل عواقب ذلك الذي نشأ عن صده وعن ظلمه وجوره. ٭ أجريتم حواراً مع الرئيس بوتفليقة.. هل لمستم عزمه على احتواء الأزمة؟ وإلى أي مدى انتم توافقونه الرأي؟ - دنونا من الأمور الاجرائية، لا شك أن الرئيس في مستوى الشعور بالمسؤولية التاريخية لابد له من أن يفكر في خطوات اجرائية وقبل الخطوات الاجرائية يبدأ حوار كي يجتمع الناس على المبادئ من حيث هي أفكار هي أسهل ليتعاون عند الاجراء والتطبيق. ٭ ماذا تقصدون بالاجراءات؟ - عندما نتفق على المصالحة أهي اعداد جزائر النهضة، جزائر من أجل الخروج من التخلف أم هي جزائر الاستعمار والانتكاسة إلى الخلف، فالأمور جدية ما بقي هناك مجال للتلاعب بالألفاظ أو ما هي الجزائر التي نريدها أن تكون. صراع دخلي ٭ تواجه جبهة الانقاذ صراعاً داخلياً حاداً.. عباسي مدني يؤيد الحوار بعيداً عن العنف المسلح وآخرون كعلي بلحاج ومجموعة أخرى تؤمن بمبدأ (حي على الجهاد).. فتقتل وتكفر وتصعد الجبال معلنة تمردها على الجميع؟ - من قال لكم أن جبهة الانقاذ تؤمن بالعنف، نحن مع كل من يقف مع المصالحة الوطنية بالطريقة العادلة المشروعة التي تساعد الجزائر على التفرغ لتشيد نهضتها، وهؤلاء لم يقولوا شيئاً إنما قيل عنهم لا يمكن أن نبني على ما قيل عنهم من هؤلاء الذين قالوا عنهم وما هو مدى صدقهم فإذا كان هؤلاء المسلحون هم أصحاب عقيدة وهم يريدون خيراً للبلاد والعباد كيف يمكنهم أن يشكلوا عقبة أمام هذه الجهود وأمام هذا المشروع، لا ندخل في العموميات الجبهة للانقاذ أسست لتكون حزباً يحتضن القضية الجزائرية وليس عالة عليها من تعارض مع مبادئ الجبهة كيف يمكن أن ينتسب إليها؟ ٭ لكنكم مارستم العنف في يوم ما هذا ما تردده أصوات داخل النظام هل تنكرون ذلك؟ - نحن لم نقاتل نحن مقاتلون ومقتولون ومذبحون وما زال القتال يتكلم واتساءل من هي الحكومة هل جزائرية أم استعمارية، إذا كانت ذلك فالمستعمر وجبت مقاومته. يجب كما ذكرت سابقاً أن نتحلى بقدر من المسؤولية تجاه أزمة الجزائر، والا سنكون في دائرة مفرغة لا مخرج منها وأن المصالحة يجب أن تنطلق من نظرة ناضجة وليس من تعصب ولا من هوى وانما من نضج وحكمة وتكامل وتعاون من أن نتحمل المسؤوليات وليس أن نُحمل الآخرين المسؤوليات من الباطل ومن العبث ومن اللامروءة أن نحمل الآخرين مسؤوليات عواقب أعمالنا. ٭ طُرحت فكرة المصالحة مؤخراً عبر إجراء استفتاء شعبي الا ترون ذلك قد يدخل الجزائر في لعبة التهم والتهم المضادة بين هذه الفئة وتلك؟ ومن شأنه أن تطول المدة والمتضرر الوحيد هنا هو الجزائر؟ - ماذا تقصد بلعبة التهم؟ ٭ أقصد أن المصالحة ستتأخر في عدم وجود تعريف لها من يصالح من؟؟ وهنا الا يحتاج إلى قرار يأتي من النظام ليطوي ملف المصالحة برمتها؟ - إن إجراء الاستفتاء الشعبي أراه لازماً وهو من أدبيات حكم السياسة الناضجة التي لا تريد أن تكون سياسة شخصيات ولا كيانات حزبية وأن أول مؤسسة تنطلق منها المصالحة المشروعة هو الشعب الجزائري فإذا لم يرد الأمر اليه كل ناعق يقول إنه يريد هكذا. والرئيس لا حق له أن يتصرف بها خاصة في هذا الأوان قبل أن يستتب الأمر وقبل أن ترفع الحواجز التي هي أمام حرية التعبير ليقول الشعب كلمته، وأن ترفع حالة الطوارئ ويتم الافراج عن المسجونين. ٭ يعتبر العفو عن رجال الأمن الذين تنسب اليهم انتهاكات حقوق الانسان بممارستهم التعذيب في السجون محل اختلاف.. انتم كيف تنظرون؟ - أنا لا أرى الحديث عن هذه النقطة في أوانها ولا في محلها هل سنحاكم المؤسسة أم نحاكم الناس. ٭ لكن حقوق المواطنين وهناك قرابة ال 7 آلاف مفقود أين العدل هنا؟ - هناك حقوق كلية ومصالح كبرى كالحفاظ على استقلال البلاد وعلى حريات المواطنين وعلى جميع مكاسب الشعب الجزائري هذه الأمور ينبغي أن تراعى في هذه المرحلة. ٭ هل يمكن ارجاء المسألة إلى وقت آخر؟ - طبعاً يمكن أن نرجئ هذا الموضوع لغير هذا الوقت. ٭ إذاً لا يمكن العفو عن المتهمين بممارسة التعذيب من قبل رجال الأمن؟ - لا رجال الأمن ولا غيرهم، أي محكمة تقوم بهذا؟ إذا جمعية الأممالمتحدة عجزت عن أن تقوم بما قامت به أمريكا مثلاً من جرائم في العراق فما هي المنظمة أو المؤسسة التي تستطيع أن تقدم هؤلاء الذين هم في الجزائر هذا كلام غير معقول. العفو والكراهية ٭ ألا ترى أن العفو عن المتهمين هنا سيولد الكراهية وسيعزز روح الانتقام والثأر؟ - إذا أردنا المصالحة لابد لنا أن نسمو وأن نرقى بمستوى من النضج مما حدث لنا وحدث لغيرنا ينبغي أن نتناسى أمر نفوسنا أمام حاجة الوطن وأمام مستقبل الأمة لأننا في هذه الحالة من المشادات لا نخرج أبداً، كيف يستطيع أن يتقبل منك هذا وهو السلطة الآن أن يتركك لتنطلق بما تريد لتنتقم منه غداً، هل حاكمت الجزائرفرنسا بما فعلته بها من جرائم أم تصالحت معها في نطاق مفاوضات «افيان».. لا أستطيع أن أقصي أحداً الا من أقصى نفسه لأن الذي يهمنا هو المستقبل لا نستطيع أن نضحي بالمستقبل من أجل ماض انتهى ولا نستطيع استرجاعه. هناك موازنة.. لا الموازنة الشخصية ولا الحزبية لا نقبلها أنها موازنة موضوعية عادلة عندك مأساة وعندك مستقبل لحل المأساة وقد نفذ أمرها وتحقق فعلها هل يمكن استرجاع خسائرها؟ الجواب لا.. كيف أطلب ما محال لم يتحقق في وقت تاركاً امكاناً حان وقته اين الحكمة. ٭ قدمتم مبادرة حول المصالحة الوطنية إلى الرئيس بوتفليقة واعلنت السلطة تحفظاتها عن بعض نقاط تلك المبادرة.. ما هي أبرز العوائق التي ظهرت بينكم والرئيس بوتفليقة؟ - إن الذين كانوا قد تلقوا المبادرة بشيء من الايجاب مع التحفظ كانوا من صميم السلطة واعتقد انهم مبدئياً لا يختلفون ولا يخالفون وقد يكونون على غير ذلك إجرائياً أما الأفكار والمبادئ فليست موضوع نقاش عند النزهاء ومن يريدون خيراً للجزائر والانسانية. ٭ وأخيراً.. في حال تمت المصالحة وتمت الموافقة على دخولكم الحياة السياسية.. في تصوركم هل ستكتسح جبهة الانقاذ الانتخابات مرة أخرى؟ - من حق كل جزائري ومن حق السلطة والشعب والأحزاب والجميع أن يعرفوا كيف تكون الجزائر بعد المصالحة وعندي هذا الأهم. وستكون دولة الجميع دولة العدل دولة الشعب الجزائري لان مشكلتنا ليست في من يحكم من؟ نحن لسنا طلاب حكم لسنا بالذين يتخاصمون من أجل الكراسي.