أدت الصدمة التي يعيشها الشرق الأوسط بعد "الربيع العربي" الى إيجاد تغيرات جيوسياسية كبيرة في المنطقة. فمن جهة ألحقت هذه التغيرات ضرراً بميزان إسرائيل الاستراتيجي، وزادت من هشاشة اتفاقات السلام التي وقعتها مع مصر، والفلسطينيين والأردن. ومن ناحية أخرى فتحت الباب أمام فرص جديدة نجمت عن ضعف الدولة القومية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، واحتمال انهيارها. ومن الأمثلة البارزة للدولة القومية المرشحة للانهيار العراق. فمنذ قيام الدولة هناك، لم ينجح العراق في بلورة هوية قومية جامعة لكل العراقيين، تجسر الهوة بين القومية العربية ونظيرتها الكردية التواقة لتقرير مصيرها. هذا التطلع الكردي برز من جديد مع إقامة إقليم كردستان في أعقاب حرب الخليج الأولى العام 1991، وتسارعت وتيرته بعد الغزو الأميركي للعراق العام 2003 والانسحاب منه العام 2011. وخلق ضعف السلطة المركزية في بغداد والآثار التي نجمت عن "الربيع العربي" وضعاً قامت فيه دولة كردية تعمل بشكل مستقل بحكم الأمر الواقع، رغم حديثها الدائم عن حرصها على وحدة العراق. وأدرك الأكراد بأن إعلان استقلال دولتهم سيضعهم في مواجهة مع الدول المجاورة من شأنها أن تعطل تطلعهم بعيد المدى، ولذلك امتنعوا عن اتخاذ هذه الخطوة رسمياً. وحتى في الدول الأخرى التي يعيش فيها الأكراد، والذين يبلغ عددهم 30 مليون تقريباً، بدأت إرهاصات "الربيع الكردي" على غرار "الربيع العربي". ففي سورية استغل الأكراد في شمالها الأحداث هناك لإقامة حكم ذاتي في منطقتهم، وإذا ما حصل ذلك فسيعملون على توثيق علاقتهم بالحكم الذاتي لأكراد العراق وخلق تواصل جغرافي معهم. هذه التحركات أدت بدورها الى دفع الأكراد في تركيا لتكثيف ضغطهم لإنشاء منطقة حكم ذاتي لهم هناك أيضاً. وحتى في إيران يبدو أنهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي. إن "الربيع الكردي" يدفع قُدماً إجراءات نشر الديمقراطية في المنطقة بشكل أسرع من الأنظمة الجديدة التي قامت استناداً إلى التيارات الإسلامية السياسية. وهذه التطورات من شأنها أن تغير الخارطة الجيوسياسية التي عرفناها لعقود. والسؤال الأهم هنا هو كيف تستعد إسرائيل لمواجهة ذلك. يتوجب على إسرائيل أن تضع في حسبانها النقاط التالية: أولاً: هل بإمكان إسرائيل "الخروج من الصندوق" والسعي لإقامة علاقات مع القوة الصاعدة في المنطقة.. أي الأكراد؟ وهل الأكراد معنيون بذلك؟ وكيف سيكون تأثير هذه العلاقات مع الأكراد على العلاقات الإسرائيلية – التركية؟ إن وجود كيان كردي مستقر وقوي في العراق يعتبر ثروة إستراتيجية واضحة لإسرائيل خاصة مع رابطة الدم التي تربطهم بالأكراد في سورية وتركيا وإيران، وتتمتع هذه العرقية بميزة التواصل الجغرافي رغم انتشارها في هذه الدول. كذلك يرى الأكراد إسرائيل (دولة نموذجية) يمكن أن يُحتذى بها، وشعبياً لديهم شيء من التعاطف إزاء اليهودي ودولة إسرائيل. وقد صرح زعماء إقليم كردستان العراق في أكثر من مناسبة بأنهم لا يمانعون في إقامة علاقات مع إسرائيل في الوقت المناسب الذي تراه الحكومة المركزية. ومن وراء الكواليس أكدوا أن أنهم على استعداد لإقامة علاقات بأي شكل كان، كونها حليفاً طبيعياً في المحيط المعادي للأكراد. مع ذلك هناك مخاوف لدى سكان الإقليم الكردي العراقي من ردة فعل العالم العربي ودول الجوار، وخاصة إيران، حول إقامة علاقات مع إسرائيل. أما في إسرائيل فهناك اعتقاد سائد لدى المستوى السياسي بأن أي علاقات مع الأكراد ستُلحق ضرراً كبيراً بالعلاقات مع أنقرة. لكن أصحاب هذا الاعتقاد تجاهلوا التغيرات التي طرأت على العلاقات التركية - الكردية وما طرأ أيضاً على العلاقات التركية - الإسرائيلية. فتركيا نفسها هي التي ساعدت الأكراد على استقلالهم في الحكم في شمال العراق، كما أنها تسعى جاهدة لايجاد حل لمشكلتها الداخلية مع الأكراد ، وعليه فلم يعد هناك ما نخشاه من اقامة علاقات مع الأكراد. إن العلاقات التركية - الإسرائيلية تمر بأسوأ حالاتها وليس هناك اي أمل في الافق لعودتها كما كانت، فالدعم الذي تقدمه أنقرة لحماس وتعرضها لإسرائيل في أي مناسبة دولية يستوجب وضع اساس جديد للعلاقة مع أنقرة قائم على الندية. وفي حال عودة العلاقات بين الجانبين الى سابق عهدها فيجب على إسرائيل ان تحفظ لنفسها إقامة علاقات مع الأكراد كتلك العلاقة الوثيقة التي تربط تركيا بالفلسطينيين. ورغم ضرورة السعي لتحسين العلاقة مع أنقرة إلا أنه يجب أن نفهم بأن التغييرات العميقة التي حدثت في تركيا هي التي تعيق هذه المساعي وعليه فالأكراد لن يكونوا عقبة أمامها. يتوجب على إسرائيل أن تعتمد سياسة فعالة إزاء الكيان الكردي شمال العراق وامتداده في سورية وتعتبره حليفاً لها. وهذا يعني تقديم الدعم الانساني والاقتصادي والسياسي لهم، أما بالنسبة لأكراد تركيا فيجب على إسرائيل أن لا تظهر بمظهر من يسعى لإثارة قضايا داخلية في عين تركيا، وتكتفي باعتماد موقف انساني حيال القضية الكردية. كذلك لا يوجد ما يمنع من السعي للتواصل مع الأكراد في إيران ، الذي يعيشون صراعاً مع نظام الملالي في طهران. وسيكون لأي مساعدات إسرائيلية في هذه المرحلة المتقدمة أهمية كبيرة على المدى الطويل، ويبدو أن تحركاً يستحق أي جهد تقوم به إسرائيل. البروفيسورة عوفرا بنجو باحثة في مركز دايان بجامعة تل أبيب د. عوديد عاران الباحث بمعهد دراسات الأمن الوطني