نتائج الحرب الجارية في سوريا التي تزداد عمقًا يومًا بعد يوم، أو تقسيم البلاد على أسس طائفية عنيفة، سيكون لها أثر كبير على التطورات في المنطقة كافة، وبخاصة على الدول المجاورة لها، فاستراتيجيات النظام التي اختارها من أجل مقاومة التحديات التي يمكن أن تقوض دعائمه أدت إلى تعميق الانقسام الطائفي، كما أن حربًا أهلية مطولة يمكن أن تؤدي إلى ترسيخ تلك الانقسامات التي من المتوقع أن تبتلع كلاً من العراق ولبنان المجاورتين أيضًا؛ فكلاهما لديه مشكلاته الطائفية، وذلك سيضع ضغوطًا هائلة على كل من الأردن وتركيا وربما إسرائيل أيضًا. ولكن على الجانب الآخر، فإن مصير النظام السوري والمسار الذي يمكن أن تسير فيه البلاد سوف يتحددان أيضاً نتيجة للعبة الجيوسياسية التي تدورحالياً والتي بدأت منذ إعلان الانسحاب الأمريكي من العراق. سوريا تقع في قلب تفاعلات القوة الإستراتيجية التي أدت إلى تجييش الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة وأوروبا ضد إيران، أما روسيا فهي تستشيط غضبًا بسبب ما اعتبرته خداعًا في ليبيا، لذا تستخدم كل سلطاتها وعلاقاتها بالنظام السوري من أجل الإبقاء على نظام الأسد وعائلته في سدة الحكم. تلك العلاقة الوثيقة بين إيران وسوريا ووراءهما حزب الله في لبنان تدعمها الحكومة العراقية الحالية وتأييدها لنظام الأسد؛ ساعدت على تعميق البعد الطائفي للعبة الجيواستراتيجية وزادت الضغوط على كافة الأنظمة في المنطقة التي توجد فيها أقليات دينية. وحتى الآن فإن الصورة تفيد بأن النظام السوري سوف يمارس أقصى ما يستطيع من العنف لتظل له اليد الإستراتيجية العليا على الأرض. وطالما أن إيران مستمرة في دعم سوريا وروسيا لا تريد أن تسحب حمايتها للنظام، فإن الحوافز أمام النظام لقبول حلول وسطية أو خطة لمغادرة السلطة تظل ضعيفة جدًا. ففي ظل تلك الظروف ومع حسابات طهران وموسكو، ومع وجود بكين تنتظر عن بعد، فإن ذلك كله جعل أنقره تفقد توازنها، فقد استثمرت تركيا بصورة مكثفة في النظام السوري في العقد الماضي، فسوريا كانت في قلب السياسة الخارجية الإقليمية لتركيا، والآن تحطمت تلك السياسة، وفي الواقع ومنذ بدء مغادرة الأمريكيين للعراق وفشل الجهود التركية لإقناع الأسد لإعادة إصلاح نظامه، فإن علاقات أنقرة بحكومات إيران والعراق وسوريا أصبحت أقل ما توصف بأنها معقدة للغاية.و بعدما أثبتت جهود إقناع الأسد بالتنحي أنها غير ذات جدوى، قامت تركيا بتقدير (يبدو أنها كانت تقديرات خاطئة) أن النظام لم يعد لديه أي قوة للبقاء، فاقتناعها بتلك الفرضية ورغبتها في وضع الأخلاقيات في مرتبة عالية، دفع أنقرة إلى تصعيد موقفها وخطاباتها تجاه دمشق. فقامت بدعم المعارضة وسمحت لها بالتنظيم داخل أراضيها وقامت بعمل معسكرات للاجئين واستضافت قائد الجيش السوري الحر. وبعد فشل المحاولات الأخيرة في أغسطس الماضي لتغيير أسلوب الأسد، بدأت أنقرة بالإدانة القوية للبعثيين وقطعت كل الحوارات معهم، بالرغم من إبقائها لسفارتها مفتوحة هناك. وبسبب الحدود المشتركة الطويلة بينهما، فإن تركيا سوف تكون جزءًا من أي تطورات محتملة فيما يتعلق بسوريا، فمؤخرًا أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان أن تركيا تفكر في إنشاء منطقة عازلة داخل سوريا، وبالوضع في الاعتبار أن ذلك قد يعني انتهاكًا للسيادة السورية وأن تركيا ضد أي تدخل عسكري دولي، كما أنها مترددة بشأن التدخل العسكري بنفسها، فمن غير الواضح كيف سيتم حماية تلك المنطقة العازلة. كما أنه لا يتضح أيضاً كيف سيتم شرعنة مثل ذلك الإجراء ومن أين سيستقي قانونيته، أم أن مجرد دعم من يسمون أنفسهم ب»أصدقاء سوريا» سوف يكون كافياً. قضية المنطقة العازلة أيضًا تطرح واحدة من أهم المشكلات التي أغفلت فيما يتعلق بالتطورات في سوريا والتي تربط التطورات السورية بالتطورات في العراق. فمنذ حرب العراق، والآن مع تطور الأحداث في سوريا، أصبحت القضية الكردية بالفعل قضية عابرة للقومية ولا تقتصر على قطر واحد. الأكراد في العراق يتمتعون بوضعية شبه استقلالية في حكومةكردستان الإقليمية التي تتمتع بالحكم الذاتي، والمثير للسخرية أنه بعد سنوات من عدم الاعتراف بالقيادة الكردية العراقية واعتبارها أنها مجرد قيادة قبلية، قامت تركيا مؤخرًا بإنشاء علاقات وثيقة معها، فقد ظهر الأكراد على أنهم حليف تركيا الطبيعي في العراق، فهم أصبحوا أهم شريك تجاري واستثماري ليس فقط في المنطقة ولكن على مستوى العالم كله، كما أنهم شركاء أيضًا في احتواء حزب العمال الكردستاني الانفصالي الذين تقع معاقلهم في جبال قنديل داخل حكومة كردستان. والآن ظهر أكراد سوريا في النهاية كجزء من الصورة على المستويين الوطني والإقليمي. فإذا افترضنا أن سوريا لن تنقسم، فمن المحتمل للغاية أن أكراد سوريا سوف يتمتعون بمزيد من الحقوق عما كان عليه الوضع في السابق، وما يجعل ذلك مثيرًا للاهتمام هو أن عدو تركيا، حزب العمال الكردستاني، يتمتع بدرجة معقولة من الشعبية في حكومة كردستان كما أنه قوي سياسيًا جدًا بين أكراد سوريا. ولذلك فبصرف النظر عن وضعية الأكراد في سوريا الجديدة، فإن عنصر التضامن العابر للحدود وربما التعاون أيضًا سيزدهر بين الأكراد. وهذا يجب أن يزيد سلطة حكومة كردستان ونفوذها ومنافسة نفوذ ووجود حزب العمال الكردستاني في سوريا. وكما أشار إدريس محمد، وهو مراقب للسياسة الخارجية التركية، قائلاً: «إذا ما تم إعطاء أكراد سوريا حقوقًا، حتى لو لم يقوموا باستنساخ تجربة أكراد العراق، فمن المؤكد أنهم سيتمتعون بحياة أفضل، كما أن أكراد تركيا سوف يشعرون أنهم مضطهدون أيضًا بسبب القيود التي فرضتها عليهم الدولة التركية أمامهم لنيل مزيد من الحريات ، وسوف يشجعهم وضعية إخوانهم في العراق والقومية في الدول الأخرى، وسوف يحفزهم ذلك على الحصول على حقوق كردية أكبر في تركيا». بعبارة أخرى، سوف يكون من الصعب احتواء المشكلة الكردية في الدول المختلفة باعتبارها قضية داخلية؛ فحتى إذا لم تنتشر الطائفية في المنطقة إلى البلدان الأخرى وظلت سوريا موحدة، فإن ظهور تلك السياسات الكردية العابرة للحدود ربما يكون التداعيات الأخطر للأزمة السورية. وفي ظل تلك الملابسات، فإن الحكومة التركية يجب عليها أن تكون حذرة بشأن نوع المنطقة العازلة التي ترغب في إنشائها، وكما حذر جوكان باسيك من جامعة زيرف، يجب على تركيا أن تتأكد أن حدود تلك المنطقة لن يتم رسمها فقط بناء على الخطوط الطائفية أو العرقية. * * * * (حرييت دايلي نيوز) التركية