ما زالت أجواء الصدام بين رئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، ورئيس إقليم كردستان، مسعود برزاني، حول المناطق المتنازع عليها تتحكم في شكل الخريطة السياسية في عراق الغد، وتتدخل في الصدام مصالح إقليمية تتراوح ما بين نفوذ إيراني مفترض بهيمنة أحزاب شيعية تدين بالولاء لطهران على مقاليد السلطة في بغداد، ومساعٍ تركية لموازنة هذا النفوذ من جهة ثانية. فيما تحاول حكومة إقليم كردستان مسك العصا من الطرف الذي يعبر عن مصالحها للإعلان عن دولة كردية مازالت الولاياتالمتحدة ترفضها علنا وتبشر بها سرا. التاريخ يتكرر خلَّف الاحتلال الأمريكي فراغاً سياسياً وأمنياً في العراق أنتج حرباً أهلية عرقية طائفية في نهاية 2005، وأفرزت تلك الأخطاء قيادات سياسية عراقية جديدة كانت في الأصل قادة ميليشيات وشخصيات في المنفى. ويشبه ما يحدث حالياً من صراع بين بغداد وأربيل حول المناطق المتنازع عليها ما حدث عام 2008 حينما واجهت حكومة بغداد الأطراف الكردية في محافظة ديالى باختيارها قضاء خانقين الواقع على الحدود مع إيران- الذي دخلته القوات الكردية خلال الاجتياح الأمريكي عام 2003- لمواجهة الكرد.ويرى مراقبون أن المواجهات مع الأكراد تهدف إلى دعم موقف رئيس الوزراء قبل انتخابات مجالس المحافظات، ففي الظاهر تبدو هذه المواجهات وكأنها تتصاعد إلى حرب معلنة، إلا أنها في الواقع تشكل تهديدا سياسيا أكثر من أي شيء آخر. وترى الأحزاب الكردية في تحركات المالكي خطوات استفزازية فسرها كثيرون على أنها برنامج تعريب مصغر يديره المالكي، بما يعيد للذاكرة حملة التعريب المؤسساتي التي شنها صدام حسين من أجل اجتثاث المزارعين الكرد من شمال العراق واستبدالهم بعرب من أجزاء أخرى في البلاد.وأجج كل هذا حربا كلامية بين المالكي وبرزاني، فبدأ المسؤولون الكرد في إطلاق لقب صدام الجديد على المالكي، حتى أن أحد النواب في برلمان كردستان قال إن حزب البعث مازال على قيد الحياة في بغداد وإنه يحاول إلغاء المادة 140 من الدستور التي تحدد مستقبل المناطق المتنازع عليها. واستمرت هذه الهجمات الكلامية قرابة السنة بعد ما يُعرَف بأزمة خانقين التي نشبت بين المركز والإقليم عام 2008 وانتهت بتحديد كيفية لقاء برزاني بالمالكي. منذ ذلك الوقت فُقِدَت الثقة بالمالكي، حيث يسود الشعور بأن الحكومة المركزية، بعد انحسار التمرد والمليشيات، تلتفت إلى الكرد، وظل هذا الشعور سائدا حتى الانتخابات البرلمانية في 2010 عندما حاول برزاني وغيره من السياسيين تحجيم سلطة المالكي دون أن ينجحوا. وتقع اليوم نفس المواجهة في المناطق المتنازع عليها، ففي يوليو الماضي أعلنت وزارة الدفاع العراقية تشكيل قيادة قوات دجلة للسيطرة على قوات الجيش والشرطة في ديالى والتأميم وصلاح الدين، وفي سبتمبر شعرت الأطراف الكردية بالتوجس من هذه القيادة الجديدة وادعت أنها غير قانونية واستفزازية وتشكل تهديداً للمادة 140 من الدستور، التي تنص على إجراء استفتاء في كركوك والمناطق المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها بالانضمام إلى كردستان العراق من عدمه. وفي نوفمبر الماضي، وقع إطلاق نار بين الجيش العراقي والشرطة من جهة ووحدة من البيشمركة «الجيش الكردي» في صلاح الدين خلال محاولة اعتقال رجل أعمال كردي متهم بتهريب النفط. وأدى الحادث إلى مقتل مدني وجرح عشرة آخرين، ما دعا الحكومتين المركزية والإقليمية إلى تعبئة قواتهما مرة أخرى وإرسالهما إلى المناطق المتنازع عليها. الأزمة والطموح اتخذت الأزمة العراقية بعدا إقليمياً حين بدأ مسعود برزاني في دعم أكراد سوريا بشكل علني وأقام معسكرات لتدريبهم وأرسل قوات ال أسايش «أمن كردي» لفرض السيطرة على مدن حدودية بالاتفاق مع تركيا والولاياتالمتحدة من خلال إعادة العمل بلجنة مشتركة مشكلة منذ عام 1992 لتطبيق ما يعرف ب «الملاذ الآمن» برعاية أمنية من تركيا جعلت قوات الاستخبارات العسكرية التركية «ميات» تتجول بعرباتها المصفحة في المدن الكردية لحماية قيادات الإقليم ومقرات الأممالمتحدة وبعثات المخابرات الأوروبية والإسرائيلية. لكن هذا التنسيق الذي أعيدت له الحياة مع الخطوات الأولى لإسقاط حكومة بشار الأسد، جعل الطموح الكردي يتسع ليصل إلى الإفصاح علناً عن الرغبة في تشكيل ما يشبه دولة كونفيدرالية برعاية تركية، وهو ما كشفه مسعود برزاني خلال مشاركته في ندوة لعددٍ من مراكز البحوث الأمريكية قادها مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن وبحضور صقور اليمين الأمريكي المحافظ. غير أن هذه الرغبة سرعان ما اصطدمت بعناوين عريضة لتفتيت سوريا مما أدى إلى رفض الكثير من قوى المعارضة السورية مطالب الأكراد السوريين المؤيدين لطرح اعتماد الفيدرالية في سوريا في مرحلة ما بعد نظام بشار الأسد، وعلى هذا الأساس تغيرت الخارطة الإقليمية ورفضت أنقرةوواشنطن معاً إعادة الحياة إلى «جمهورية مهاباد الكردية». العمائم والطربوش يبدو الأكراد وكأنهم ضحية للتاريخ والجغرافيا، حيث ناضلوا لمدة قرن تقريبا لتحرير أنفسهم من السيطرة المركزية ولكي يتغلبوا على موقعهم المحاصر. وإلى الآن، فإن هناك أسباباً جيدة للاعتقاد بأن الأكراد سيؤجلون سعيهم لإقامة دولتهم مرة أخرى، وفي الأغلب فإنهم يسعون إلى الابتعاد عن حضن بغداد الخانق من أجل المزيد من الاعتماد السهل على تركيا. ويُثار سؤالٌ عن المدى الذي سيذهب إليه القادة الأتراك سواءً أكانوا استعدوا لتجاهل خطتهم الأولى، أي تعزيز عراق موحد، أو الخطة البديلة القائمة على الارتباط بأقاليم تنعزل عن بغداد مثل كردستان والمحافظات التي يشكل السنة الأغلبية فيها شمال العراق والمخاطرة بتجزئة العراق لمواجهة النفوذ الإيراني فيه. وكانت تركيا ترى ضرورة بقاء العراق موحدا وعدم تقسيمه خشية تفاعل الأكراد فيها مع الأمر، لكنها الآن لا ترى أزمة في التجزئة بعد تصاعد النفوذ الإيراني في الساحة العراقية. واستعاد الصراع على العراق ذات معالم الصراع بين الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية، ولكن بطريقة جديدة لتُمثَّل العمائم الشيعية المهيمنة على السلطة بالحكومة الاتحادية بولاء شبه مطلق لإيران مقابل سنَّة لا يجدون فرصتهم في شراكة الحكم ويحتاجون إلى دعم الطربوش العثماني بمعالم تركية حديثة. ومع أن الخطاب في أنقرة تغير، ولم يعد المسؤولون يشيرون بعد إلى الوحدة العراقية باعتبارها الشيء الذي لابد منه؛ ولكن يبدو السؤال مهما حول الأولويات التركية.ويُقال إن أردوغان وعد برزاني بأن تحمي القوات التركية الإقليم الكردي حال وقوع هجوم عسكري عليه من بغداد. وإن كانت زيارة وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، إلى كركوك المتنازع عليها في أغطسس الماضي لا تعني دعم المطالب الإقليمية الكردية، فإن رد فعل بغداد الملتهب أظهر أنها فُهِمَت بتلك الطريقة. ديكتاتورية الحكومة الاتحادية لا تنظر القوى السياسية العراقية إلى الحكومة باعتبارها أداة لإدارة البلاد وإنما باعتبارها سلاحا ضد المنافسين وأداة لمكافأة الدوائر الانتخابية، ويعني ذلك أن أي فريق لا يقبل السيطرة على الحكومة من قبل الفريق المنافس، فالجميع يخطط باستمرار للسيطرة على الحكومة الاتحادية ويتجه للبحث عن دعم من حلفائه في الدول الكبرى المجاورة كتركيا وإيران أو قوى أكثر بعداً لها مصالح في المنطقة مثل الولاياتالمتحدة وروسيا والصين. وهكذا مد المالكي يده إلى إيران، وبطريقته الخاصة، باعتباره زعيما وطنيا ووكيلا عن الشيعة العراقيين يبدو أنه يكره الإيرانيين أكثر مما يحبهم، وكان أكثر عمل مهم للمالكي كرئيس للوزراء عمليته التي تسمى «صولة الفرسان» والتي جردت جيش المهدي الذي تسانده إيران من موقعه في البصرة ومدينة الصدر ومدن أخرى في جنوب العراق في 2008، وكسر ذلك القوة الإيرانية في العراق على الأقل لوقت محدد وأقنع سنة العراق بالاشتراك في الحكومة الجديدة. وبالرغم من ذلك، أدى انسحاب الولاياتالمتحدة من العراق إلى تقدم إيران لملء الفراغ، وكانت طهران وليس واشنطن مهندسة إعادة انتخاب المالكي في 2010، وكان الصدريون، وهم اليد القوية لإيران، العامل المساعد لعودة المالكي كرئيس للوزراء رغم حقدهم عليه. وبالرغم من جميع هذه المساعدات الحاسمة، حاول المالكي أن لا يعتمد بالكامل على إيران من خلال الاحتفاظ ببعض العلاقات مع واشنطن باعتبارها الثقل الموازي لطهران. وفي الحقيقة، فإن بقاء الدولة العراقية تطلب أن تقوي الحكومة سلطتها، لكن ذلك كان طريقا لتكوين الدكتاتورية، وبغض النظر عن النوايا فإن المالكي أرسل أسوأ الإشارات إلى بقية مكونات العراق الإثنية والطائفية بمحاكمة نائب الرئيس طارق الهاشمي، ما اعتُبِرَ ضربة انتقام تكرس الفزع وعدم الثقة، وهي ذات الأسباب التي دفعت العراق إلى الحرب الأهلية. أربيل تقدم النفط لأنقرة مقابل دعم الاستقلال يوصف رد فعل الأكراد من الأزمات السياسية في العراق بأنه الأكثر خطورة ، فعديد من القادة الأكراد، ولاسيما برزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، متشائمون من نجاح علاقاتهم مع بغداد، ويبدو أنهم يعتقدون أن الاستقلال بقوة الأمر الواقع قد يكون الخيار الفعال في الأمد المتوسط. وتحضر وجهة النظر هذه في جميع حسابات السياسيين الأكراد بطريقة لم تكن منظورة مؤخراً حتى نهاية السنة الماضية، وهم يعتقدون أن المالكي ينوي سحق كردستان بعد قمع ائتلاف العراقية «السني» بمجرد استكمال تسليح جيشه بصورة كاملة من قِبَل الولاياتالمتحدة. وبينما ينمو الجيش العراقي فإن البيشمركة الكردية فقدت قدرات معتبرة، وهو ما خلق إحساسا بين الأكراد بأن الوقت يمر لغير صالحهم وأنهم يحتاجون إلى حل الأمور قريباً. وتلوح تركيا بصورة كبيرة في هذا الجانب، ويتوقع وزير المصادر الطبيعية في كردستان، آشتي هورماني، أن تتمكن تركيا قريباً من الاعتماد على الحكومة الإقليمية الكردية فيما يتعلق باحتياجاتها من الطاقة، لذا فإنه يعمل على تفعيل صفقة لأنبوبين ناقلين للنفط والغاز مع تركيا وكذلك توقيع عقود نفطية وغازية مع شركات عالمية، وتمضي هذه الصفقات قُدُماً مثيرةً استياء بغداد الكبير. وتتوقع أربيل تصدير نفطها وغازها عبر أنبوبين تربطان كردستان بتركيا عملياتياً خلال سنوات قليلة مقبلة بما يؤهل أنقرة للعب دور اقتصادي أكبر مع دول الاتحاد الأوروبي. ويؤطر هذه العلاقات الإستراتيجية بين أربيل وأنقرة،عددٌ من العوامل أبرزها: زيادة التعاون المتبادل بين جنوب شرق تركيا والإقليم الكردي العراقي؛ كراهية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للمالكي؛ الطريقة التي تسلكها سوريا حيال تركيا والحكومة الإقليمية الكردية معا؛ والتحول في التوازن الإقليمي كنتيجة للربيع العربي. ويعتقد عديد من الأكراد أنهم سيتمكنون في النهاية من الاعتماد على دعم تركيا للإعلان عن الاستقلال بقوة الأمر الواقع خلال سنتين إلى ثلاثة، ولاسيما إذا استمر الوضع الأمني في بقية العراق في التدهور، وهذا هو الرهان الذي ما زالت جميع الأحداث الإقليمية تصب في مجراه لمصلحة الأكراد. جندي يرفع علم كردستان على الحدود الشمالية للعراق مع سوريا (رويترز)