عندما سألت محدّثي القريب من مصادر القرار الايراني عن مستقبل العلاقات الايرانية - التركية علي خلفية الموقف التركي من التطورات السورية، قال وفي شكل واضح «ان هذا الموقف مقلق لنا لا لجهة تعاطيه مع سورية حليفتنا الاستراتيجية في المنطقة، وإنما لجهة الدور الذي يلعبه الاتراك في «الربيع العربي»، ويزيد: «لكن ذلك لا يعني ان طهران ستكون متفرجة حيال اية تطورات قد تشهدها الحدود التركية - السورية». وعندما استوضحته عن امكانية تضحية ايران بعلاقتها المتميزة مع تركيا لمصلحة الحليف الاستراتيجي سورية، اجاب: «لا يمكن قياس علاقاتنا الاقليمية على هذه الشاكلة، ولا يمكن ان نتعامل بهذه الطريقة في سياستنا الخارجية». لكنه قال ان أنقرةودمشق عاصمتان مهمتان لإيران في المنطقة، وتدخلان في اطار الامن القومي الايراني، والعلاقة معهما يجب ان تكون في هذا الاطار، مع التذكير بأن المصالح الايرانية مع سورية تفوق المصالح مع تركيا بسبب استراتيجية العلاقة التي تربط طهرانودمشق. لا يخفي الايرانيون قلقهم حيال الموقف التركي، الذي ربما فاجأ طهران، بعدما كانوا يعتقدون ان انقرة تستطيع ان تشكل مع ايران والعراق وسورية ولبنان طوقاً لتعزيز موقف هذه الدول حيال الاهداف الاسرائيلية والاميركية، بعد ظهور المواقف التركية المشجعة للوقوف مع القضية الفلسطينية، إن علي صعيد مواجهة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان مع الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس، أو علي صعيد دعم الشعب الفلسطيني خلال العدوان الاسرائيلي وفك الحصار عن قطاع غزة. وتتحدث المصادر الايرانية عن اقتراح إيراني قُدّم للحكومة التركية في شأن إيجاد منظومة إقليمية سياسية اقتصادية أمنية تضم العراق وسورية ولبنان، إضافة الي تركيا وإيران، لكنها واجهتها في شكل آخر، مقترحة اضافة الأردن الى هذه المنظومة، الامر الذي أجهض الفكرة، لأسباب قد تتعلق بموقف سورية من مشاركة الاردن في مثل مشروع كهذا. وترتبط ايران وتركيا بعلاقات سياسية واقتصادية تنامت في شكل ملحوظ خلال تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين بليوني دولار سنوياً، ويطمح للوصول الي 30 مليار دولار سنوياً خلال السنوات المقبلة، حيث فتحت مجالات الاستثمار امام الشركات التركية في ايران، في كل المجالات. وأعرب علي اكبر اقايي رئيس لجنة الصداقة التركية - الايرانية في مجلس الشوري عن اعتقاده بأن العلاقة مع تركيا لا تنحصر في المجال الاقتصادي وإنما تتسع لتشمل المجالات الاخري. وحاولت طهران اعطاء دور لتركيا في الملف النووي عندما اعلنت الاخيرة عن استبعاد ايران من قائمة الدول التي تهدد الامن القومي التركي، ووافقت علي الوساطة التركية - البرازيلية عام 2010 في شأن تبادل الوقود النووي مع مجموعة فيينا، وهي الولاياتالمتحدة وفرنسا وروسيا، ورجحت تركيا علي روسيا في هذه الصفقة، حيث اقترحت ايضاً إضافتها الي قائمة الدول المتحاورة معها الي جانب مجموعة خمسة زائداً واحداً، اعضاء مجلس الامن الدولي اضافة الي المانيا. ويدرس البلدان حالياً اقتراح تطوير العلاقة الاقتصادية بإلغاء الجمارك بين البلدين في اطار تعاون اقتصادي شامل يعتمد علي امكانات البلدين الاقتصادية. لكن التطورات الاخيرة التي حصلت في الموقف التركي من أحداث سورية جعلت الايرانيين يشعرون بنوع من القلق، حيال لعب انقرة الدور ذاته مع طهران في حال وقوع أحداث مشابهة، فأرسلت للأتراك تدعوهم الي عدم الانجرار مع الاطماع الاميركية والاسرائيلية في شأن سورية وأوصتهم بالحذر من السير في هذا الاتجاه. ويستبعد المحلل السياسي الايراني حسن لاسجردي حدوث تطور سلبي في العلاقات التركية - الايرانية علي خلفية التطورات السورية، «لأن المواقف التركية الاخيرة قد تكون مرتبطة بالانتخابات الاشتراعية التركية، ومن غير المستبعد انخفاض حدة التوتر مع سورية» بعد انتهاء المعركة الانتخابية، لكنه يدعو في الوقت ذاته الي امتحان الصدقية التركية من خلال الملف السوري، «لإعادة صوغ العلاقة التركية - الايرانية». ويعتقد لاسجردي ان احتضان تركيا مؤتمر المعارضة السورية في انطاليا، نقطة مهمة يتمني ان «تكون لدواعٍ انتخابية داخلية» ولا ترتبط بجهد استراتيجي تركي نحو المنطقة. وتختلف التفسيرات الايرانية للموقف التركي، في الوقت الذي يخلو المشهد الرسمي من اي موقف حيال ما تتعرض له دمشق من «ضغوط تركية» تساهم في تعقيد الاوضاع داخل المدن السورية، حيث يذهب البعض الي ان الموقف التركي لا يمكنه ان يسير قدماً في تأزيم الاوضاع لأن الدخان الاسود المتصاعد من هذا التأزيم لا بد من ان يدخل في عيون الاتراك الذين يشاركون سورية في تعدد الطوائف والمذاهب والقوميات، فالأكراد السوريون لا يمكنهم الاطمئنان الى حسن نيات تركيا التي تضطهد الاكراد قبل اضطهادهم من الحكومة السورية، واذا ما تسني للأكراد السوريين انتهاج طريق الاكراد العراقيين، فمعني ذلك اعطاء الاكراد الاتراك جرعة سياسية جديدة، خصوصاً انهم سيستفيدون من الفراغ السياسي الذي تحدثه حالة التأزيم، وهذا ما يؤرق الحكومة والجيش التركي علي حد سواء. اما الطائفة العلوية التي تعيش في المناطق المتاخمة للحدود السورية - التركية، فإنها تتعاطف مع الحكومة السورية والقضاء علي هذه الحكومة بمسعي تركي سيولّد انعكاسات لا ترغب بها انقرة التي تريد تعزيز امنها الداخلي والاستمرار في سياستها الاقتصادية التي تريد من خلالها الدخول الى الاسواق الاقليمية. واستناداً الى ذلك، فإن هذا الفريق الايراني يعرب عن اعتقاده بعدم تغيير السياسة التركية، وما حدث او يحدث هو نوع من الضغوط التي تمارسها انقرة من اجل مساعدة الحكومة السورية لحل مشاكلها مع الشعب السوري وتحديداً في ما يتعلق بالحريات والديموقراطية والمشاركة السياسية، وهذا امر يجب ان تساهم فيه طهران من اجل اعطاء الشعب السوري حريته وإبقاء النظام السياسي الملتزم بالثوابت الوطنية والقومية. ويعتقد هذا الفريق ان تركيا تعمل بتوصيات الرئيس الاميركي باراك اوباما لتهجين أو ترويض الحركة الاسلامية السنية التي تقودها حركة «الإخوان المسلمين»، سواء في سورية او في غيرها من الدول العربية، لانتهاج الخطاب والنموذج التركي المعتدل، وأن احتضانها لمؤتمر انطاليا يأتي في هذا السياق، وبالتالي لا خوف من الدور التركي علي الصعيد السوري الذي لا يتعارض مع الجهود الايرانية في التعايش مع «الربيع العربي». هذه الصورة الايجابية تواجهها صورة اخري، تبدو قاتمة بعض الشيء، لأنها تعتقد ان ما يجري علي الحدود السورية - التركية يتعدي الرغبة بمساعدة الحكومة السورية، الي تنفيذ مخطط او برنامج تشارك فيه الولاياتالمتحدة وإسرائيل، اضافة الي بعض الدول الاقليمية من اجل تحقيق اهداف ثلاثة، الاول فصل سورية عن ايران، والثاني ايقاف الدعم السوري لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، اضافة الي القبول بفتح باب الحوار مع اسرائيل وصولاً الى اتفاق علي غرار اتفاق «وادي عربة» مع الاردن، و «كامب ديفيد» مع مصر، كمقدمة لاتفاق مشابه مع لبنان ينهي حالة المقاومة ويهيئ لحالة السلام التي تريدها اسرائيل علي مقاساتها الخاصة. ويبرز هذا التفسير في شكل واضح عند الدوائر القريبة من الحرس الثوري الذي يعتقد بضرورة استخدام كل الامكانات للوقوف مع النظام السياسي في سورية، من دون ان يبخل في تقديم النصائح علي مستوي تحقيق المطالب الشعبية، لكن ليس علي الطريقة التركية، وانما بالتنسيق مع الحكومة السورية. وكان مرشد الجمهورية الاسلامية علي خامنئي واضحاً خلال خطابه في ذكري رحيل الإمام الخميني في 5 حزيران (يونيو) الماضي، عندما صنّف الربيع العربي صنفين، فمنه ما يحاول إسقاط الانظمة السائرة في الركب الاميركي، ومنه ما يدار من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وعلي رغم انه لم يذكر سورية بالاسم، الا انه كان واضحاً انه كان يقصدها، حيث دعا للوقوف بجانبها في مواجهة المخططات الاميركية والاسرائيلية... وعلي ذلك، فليس غريباً ان يتخذ الحرس الثوري موقفاً مؤيداً لتوصيات المرشد، ويتناغم معه في تصوراته. ويسود الاعتقاد بأن طهران لم تلتزم موقفاً واضحاً لحد الآن، وهي تدرس كل الخيارات المطروحة علي الساحة السورية، وما يرتبط منها بالجانب التركي، من دون ان تترك مساعيها في الوقوف علي حقيقة الموقف التركي، لأن طهران تعتقد انها ما زالت ترتبط مع تركيا بعلاقات تؤهلها للتأثير في الموقف حيال سورية، وإدارة التطورات بما يخدم الأمن القومي الايراني. وتمتاز السياسة الايرانية بأنها غير متسرعة في اتخاذ قراراتها، وتعودت علي ان تقوم بتجميع المعلومات قبل القيام بأية خطوة من شأنها الايقاع بها في فخ لا يمكن الخروج منه، وهي بالتالي تراهن علي الوقت، وعلي النفس الطويل من اجل معالجة القضايا الاستراتيجية التي تشكل سورية احداها، من دون ان تنسي التعاطي بإيجابية مرة، وبسلبية مرة اخري مع مختلف المواضيع ضماناً لجني المزيد من المكاسب علي صعيد القضايا المطروحة.