هل صحيح أن العقل السليم في الجسم السليم؟! لو كان هذا صحيحا لغدا المصارعون أذكى الناس ولتصدى الملاكمون للمعضلات العلمية ولتربع هرقل وشمشون على هرم العبقرية.. غير أن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً؛ فالعلاقة الأقرب للصحة هي أن "العقل السليم في الجسم العليل" كون معظم العباقرة والمفكرين كانوا من أصحاب العاهات الجسدية الواضحة أو الأمراض الخطيرة المزمنة. فالعبقري يتخذ دائماً طريقاً مختلفاً في التفكير والاستنباط، في حين يقف العقل العادي عاجزا أمام ما يراه غير منطقي ومعقول، وهذا بحد ذاته يحثنا على التفكير في اختلاف الدوافع بينهما.. وما يبدو لي أن الشخص السليم إنسان عادي بطبيعته لا يملك دافعا لاتخاذ طريق مختلف أو محاولة التميز على بقية الخلق؛ أما صاحب العاهة فلديه "عقدة نقص" ويسعى لإثبات ذاته وتفوقه على بقية الخلق.. خصوصا الذين أوحوا دائما بعدم قدرته على فعل شيء! وليس أدل على صحة وعراقة هذه العلاقة (العقل السليم في الجسم العليل) من ملاحظة العرب لها وقولهم "كل ذي عاهة جبار". فالمتأمل في سير العظماء يجد أفرادا تحولت إعاقتهم الجسدية إلى حافز للتفوق والإبداع.. فقد عانى من العمى مثلا أبا العلاء المعري وطه حسين وداود الأنطاكي.. وعانى من الصرع الفيلسوف الألماني نيتشه والأديب الروسي دستوفسكي.. وأصيب بالصمم الموسيقار الألماني بيتهوفن والمخترع الأمريكي أديسون.. أما نابليون وعالم الأحياء باستير والرئيس الأمريكي روزفلت فكانوا مصابين بشلل الأطفال.. أما أكثر العباقرة شهرة وألمعية في عصرنا الحاضر فهو ستيفن هوكينج الذي أصيب بمرض التصلب الجانبي في شبابه وغدا اليوم مجرد عمود فقري مسجى على كرسي ويتحدث من خلال كمبيوتر وصوت آلي (وشاهد صورته في جوجل)!! ولاحظ أننا تحدثنا حتى الآن عن الإعاقة والنواقص العضوية، في حين يعاني العباقرة أيضا من نواقص اجتماعية ونفسية مشتركة.. وفي الواقع أن العلاقة بين العبقرية والشذوذ النفسي أمر لوحظ منذ أيام أفلاطون.. وكثير من الدارسين اليوم يرون العبقرية نوعاً من الشذوذ الذهني أو الاضطراب الفكري الحميد.. فكثير من العباقرة عاهتهم نفسية واجتماعية وليست جسدية أو عضوية، وهو ما يبدو جلياً لدى انشتاين والبيروني وديكنز وهتلر والعقاد.. واليوم يعتقد بعض علماء النفس ان العبقرية نوع من الجنون الفريد لأنها تحمل نوعا مختلفا من التفكير والتصور، وأن "العقد النفسية" ضرورة للإبداع والتفوق بدونها يصبح العبقري سويا مثل بقية الناس.. وأذكر أن أحد الأطباء الانجليز قدم دلائل على إصابة انشتاين بعلامات التوحد وقال ان مظاهر التوحد البسيط توجد لدى معظم العباقرة، ويظهر ذلك من خلال عجزهم عن مخالطة الجماهير وعدم قدرتهم على الخوض في أي حديث خارج تخصصهم!! والطريف ان كثيرا من العباقرة أنفسهم رجحوا هذا الرأي حيث يقول الفيلسوف بيرن مثلا "نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين"، في حين يقول الأديب دريدن "المفكرون العظام يتراقصون على حبل مشدود بين العقل والجنون".. أما أفلاطون فطالما نصح سكان أثينا بعدم تقليده في أي تصرف يقدم عليه!! .. باختصار؛ العبقري يملك غالبا عاهة أو نقصا - في شيء ما - يتبلور خلال حياته الى دافع عميق يدفعه الى التفوق والتميز ومحاولة إثبات كماله على الآخرين!!