في الأسبوع الماضي عرضنا طرفاً من أدب شعراء الجبل تجاه الزوجة، ولم نشر إلى موقف طريف عن هذا الأدب الجميل تعرض له الشاعر عبدالله القضاعي كما يذكر الأديب عبدالرحمن السويداء في الجزء الأول من كتابه: «من شعراء الجبل العاميين»، والقضاعي من جهينة أو بلي ابني قضاعة، تلك القبيلة التي تحتل ديارها ما بين ينبع إلى الوجه، متوغلة في أودية السروات المحاذية شرقاً لهذه المنطقة، أما الذي أتى بالشاعر إلى حائل فلأنها كانت حاضرة من حواضر نجد التي شهدت حياة متقدمة من التطور والازدهار لأهميتها السياسية، ولكونها مركزا يؤمه الباحثون عن الحياة الكريمة، وكان الشاعر من الكادحين العصاميين الذين أحفت أقدامهم البراري في الرعي وجمع الاعشاب ورقابة الديار للاستطلاع عمن يهدد المراعي من الغزاة. وعندما زالت سنون الخوف، وأشرق العهد الجديد، ولما تزل البلاد في بداية نهضتها عمل في الفلاحة، وله قصص ونوادر مع الزراعة أبرزت جانبا من ابداعه الشعري. أما عن أدب الحياة الزوجية في شعره فقد أورد السويداء أبياتا للشاعر إيراد المتمكن من فهم الشعر الجزل الذي تميز به شعراء الجبل، فحاكوا به شعر العصر الجاهلي من حيث الجزالة والأسلوب. إن ما يعنينا هنا هو قصته مع زواج لم يكتب له الاستقرار رغم جهاد من طرفيه أن يبلغ أوج كيانه. لا نعرف ماذا حدث، غير أن الزوجة غادرت بيت الزوجية إلى أسرتها، ولا نستبعد أسباب تقلبات الزمان وما ينجم عن أعاصيره، لقد عمل الزوجان معاً في الغرس والري الذي يعتمد على السني لاخراج الماء من بئر عميقة كلما انخفض مستوى الماء فيها زادوها تعميقا، ولا أدوات لديهم للحفر غير المعاول اليدوية، وإذا عدم وجود الدواب قام الزوجان مقام الحيوان الذي يرفع الماء بالسانية، وفي ذلك مشقة كبيرة أكبر من الصبر وأقوى من الاحتمال. وهنا قد يتولد لديهما ما يسبب الفرقة. كان الزوج يختار الزوجة من أسرة تجد فيه مناسبة الموافقة على طلبه، وهو يقدر هذه الموافقة فيصون العقد الذي تم به تأسيس أسرة جديدة، وإذا ما عادت الزوجة إلى أهلها وبخاصة إن كانوا اخوة لها دفعتهم العزة إلى حمايتها وتركوا الأمر لها، وهي لم تغادر بيتها إلا لسبب جسيم ومبرر لا يقبل التأويل. ومثلما يجري بين ذوي الشيم الكريمة، استيقظ الحب غب الغضب في وجدان الشاعر ووجد مكان الزوجة خالياً فاحتدم الصراع في نفسه، وكان الزوج المغاضب يتجنب المواجهة مع أرحامه، لأنهم يشاركونه الألم لاختلال رباط العشرة، فقد لا تسفر المواجهة عن حلول، لذا يعمل الوساطة للاصلاح، وهذا ما سعى إليه الشاعر الذي أرسل قصيدة إلى واسطة يقدرها الطرفان، ويعرف كيف يدير الوساطة، بدأ القصيدة بمطلع جميل: أبدي بذكر الله على كل بادي محيي المحِيلة من مزون مزابير هو معتدي أمري عليه اعتمادي الواحد المولى عليه التدابير مطلع استعطافي، يمجد الواحد القادر على أحياء الأرض بعد موتها (الشاعر)، ثم يقدم لممدوحه (الواسطة) واصفا إياه بالكرم: يا راكبه دزُّه لغاية مرادي رِيف الهجافا بالرخا والمعاسير «علْي» ليا دنّق خطاة الربادي يفرح ليا كثروا عليه الخطاطير واخوانه اللي مثل زمل الهداد معدن ذهب ما قيل صِفْر ودنانير ثم يباشر الهدف ويعرض المشكلة ومعاناته: سلِّم عليه وقل يقول العبادي ما صاح صيّاح ويَنْخاك من خير يا «علي» وازندي من العام غادي يذكر لنا عند ابو محماس ومنير يا «علي» سايلهم على ادَّا زنادي وحنا نكافيهم على نية الخير الحال ما تصلح بليا الزنادِ لو دونها خيل الرباعين ومطير يا «علي» لا تغويك كثر الدوادي حلفت ما اخذ عن زنادي مخاسير اسعوا لهم بالصلح قبل الجهادِ والاَّ فعند الله تزين المعاذير أبو محماس ومنير شريكان لوالد الزوجة في الزراعة، و«علي» هو الواسطة، و«العبادي» عبدالله الشاعر، والزناد أو العضد فهي الزوجة. وكلمة زنادي أو عضدي لا تطلق عادة على النساء، ولكن مكانة هذه الزوجة لدى زوجها بمنزلة العضد المعين له في حياته التي لا تكمل إلا بوجودها كما أشار. ولما كان العوض عن الزوجة بالمال كان سائداً لحل المشكلات الزوجية فإن الشاعر ينبه الوسيط بأنه لا يقبل العوض، لذا على الوسيط ألا يصغي للأقوال التي لا تخدم الصلح، ثم يبين حرصه على عودة زوجه باستعداده للجهاد والحرب لاستعادتها، وهو على استعداد للتضحية بروحه حتى تعود إليه زوجه: ما عُقب هذي يا حياة الزهادِ لا نوَّخت ما عاد للعمر توخير حياته من دون هذه الزوجة حياة زهيدة فإذا استمر الفراق فيعني الموت الذي إذا حل الأجل لن يرد. ولم تفلح هذه الوساطة فالتمس أخرى، لدى آخر وجهز مندوبا على ذلول تعبر عن مكانة رفيعة للرسول والواسطة «ابو نايف الشمري»: تَنْصى «ابو نايف» لا عدمنا خياله راع السخا والجود لولاه زعّال تَلْفي على المِجْحم تفاوحْ دلاله ما يكفي الفايت على رُوك فنجال ويبدو فقدان بعض الأبيات، أو أن الشاعر اكتفى بالتلميح لطلبه في قوله: لياما علم من لا صديق بحاله تبيّنت ما بان وانزاح الاشكال والاختزال دليل على مكانة الوسيط الذي وبلا شك يعرف مشكلة الشاعر لذيوعها في مجتمع صغير. والمجحم هو موقد النار لاعداد القهوة تشبيها بالجحيم، الفايت هو القهوة المعدة قبل قدوم الضيوف، فالقهوة رمز ترحيب وتكريم. ولم تفلح هذه الوساطة أيضا، فأخذ يبث حزنه وألم الفراق عبر أبيات منها: القلبَ تلَّنْ صوب نية هواها والنفس مزهافة وانا قاصر له وعيني اللي ما ادريٍ وش بلاها ليل ونهاره والبكا سهمة له إلى قوله: عليك يا زين الوصايف بكاها عليك موَّس دمعها حاجر له وقوله: ابو قرون بالبلايل عناها أذيال شُقْرٍ نَسّفَنْ الاجلّه بعد وصف معاناته، وامتداح جمال زوجته وعنايتها بشعرها الاشقَر يعود إلى المصالحة وتعنت والد الزوجة واصراره على الفراق: قلنا تبيع؟ وقال ما اطري عطاها قلنا تحدُّه بالثمن؟ قال: لله قلنا علامك قال ربع وراها قلنا تهون، وقال: عسر محله وأمام هذا الاصرار لا يملك الشاعر إلا الدعاء على هذا الأب: عَوْدٍ قعد له من بلاوي سماها قعد له الرب الولي قاعد له ويبرر الأب امتناعه بعصبتها أبناء عمومتها المعارضين للصلح، فيدعو عليه الشاعر. والواقع أن أم الزوجة أيضا تمانع ان تعود الزوجة للشاعر، يبدو ذلك من أبيات وساطة بأخويها في أبيات للشاعر منها: واونّتي منها الصغيِّر يشِيبِ كبر الجبل والنير واجبال سنجار ونَّة عليل ما لقوا له طبيبِ والاكسير غاديٍ عظمه انثار ويجهز الرسالة بكل احترام وتقدير لتصل أخا موضي «الزوجة»، والرسالة قصيدة فيها من التلطف والتبجيل ما يلين الصخر: عند اخو موضي نوّخه يا نديبي رِيف الهجافا لا بنا كل حزّار ليا قال كيف فلان؟ قل له يطيبِ والمخرج المولى من اسباب الاقدار الَّلوْم يقصر عن شوارب نسيبي ما قال تم وبدَّلت لي بالانكار عَدْوَة عدوك يا اخو موضي عْدِي بي كَوْن البيات اشوى منه يا ابن نصار أنخاك وانخى كل قرم عطيبِ أنخى على اللي مثل ضبَّاتجا الغار نسيبتي يا مال حامي اللهيبِ يا عل يكتب مسهمك من هل النار يعذر نسيبه وصهره مما حدث له من معاناه قدرها أكبر من اعتداء مبيت ومفاجئ من اعتداءات الاعداء الطامعين فيما لدى الآخرين، ثم يستنجد بصهره وبكل الطيبين أن يعينوه على (ضباتجا) وهي زاحفة ربما كانت ما ندعوها (ام صالح) ويعني بها أم زوجته التي يدعو عليها لسعيها بالفراق بينه وبين موضي ذات العين التي تشبه لصفائها عين الصقر الممسك به، وذات صفاء البشرة وبخاصة كفيها إلى قوله: اللى سَعَتْ بفراق عين القضيبِ صفر الكفوف اللي على الكبد صقار ثم يختتم القصيدة بوصف زوجه: خده شقاق مهزّعات الرطيبِ قبل الفوات وقبل يرقاه وبّار خلّي كما زملوق روض عشيبِ عندي تراه وكل عين لها كار يشبه الخد بياضه بلون ثلة النخلة حين يزاح عنها غمدها لتلقيحها أو جفرها أو كافورها عاكساً لونه الشفقي على الثلة، الوبّار هو من يضع البار في الثلة لتلقيحها والفوات أن يترك ليزل موعد شقه لتغير لونه لتعرضه للهواء والغبار والضوء. أما الزملوق فهو زهرة طويلة الساق جميلة اللون الأحمر المتدرج وفق ألوانه، وطول الساق يبرزها بين الزهور في الروضة المعشبة، وهذا الجمال يراه أيضاً من يقدر قيم الجمال. بعد كل تلك المحاولات والتعبير عن المعاناة وامتداح الجمال يعلن استجابته للوسطاء بطلاقها: حضر القدر مني بالاجواد غيبي وخلَّيْتَ له مع يمَّة البر معبار وهكذا يقدر الشاعر الموقف لحبه زوجه فلا يذكرها أو يذكر أهلها بسوء، ليس للأمل بعودتها وإنما احتراما لعلاقات تمتد إلى الأسرة، ومراعاة لخلق عرف به أهل حائل وما حولها. أما صلابة موقف والد وأم موضي واخوتها فهذا يرجع لطبيعة الحياة في مجتمع يخضع لعديد من القيم المتصلة بالكرامة والمصلحة، ونحن هنا بين نقيضين من التعامل صلابة الأسرة وليونة الزوج الذي يحرص على صلة الرحم في أبيات يعبر فيها عن ذلك: واعيني اللي سَوْهَجَتْ من رقاده والكبد مني حاربت لذة الزاد قلبي يسُوج ولا ادريٍ وش مراده قلبي تفرّق بين صدّر والاوراد يا من يعدِّل بالوضيحي جرادة متى تدوِّر حصة البحر وتصاد يقول على نعوّضك بالزيادة ويا من يعُوضَنْ بالحميدي وحماد ما هو لا جل ان عندهم لي سوادة مير انهم من عَقْب الآبا والاجداد الوضيحي يعني موضي زوجته، والجرادة غيرها، ويشبهها بالنادرة من النساء مثل الحصة بين لآلئ البحار.