عندما فكر المهندس الفرنسي ديلسبس بحفر قناة السويس بأمر من سعيد باشا خديوي مصر عام 1859م، لم يتوقع المصريون عدد الضحايا الذين سوف يدفعونهم ثمناً لقناة ملاحية تمتد من بورسعيد إلى السويس وتربط البحرين الابيض المتوسط، مع البحر الأحمر، بقناة طولها 173كم، ومتوسط عرضها 60م، وعمقها 13م. وكان الفرح بحفر القناة الحلم للخروج من مأزق عدم التواصل مع الدول الأخرى من خلال ايصال البضائع، التي كانت قبل حفر القناة تنزل في الاسكندرية على شاطئ البحر الابيض المتوسط، ثم تحمل على جمال لتذهب إلى شاطئ البحر الأحمر، وتغادر إلى الدول المجاورة. فالقناة ستكون منفذاً عالمياً، ومنطلق تواصل بين البحرين، وستفيد جمهورية مصر العربية حينها مادياً، وستقصر المسافات، وهو ما كان فعلاً. ولكن كما يحكي التاريخ الشفوي ان مصر من اجل ان تصل إلى حلم القناة المنفذ دفعت 120 الفاً من مواطنيها في ذلك الزمن للفترة من 1859م بداية حفر القناة إلى 1869م نهاية الحفر وتدشين القناة، ولنتصور 120 ألف إنسان مقابل 5 ملايين أو ثلاثة أو مليون مصري في ذلك الزمان لأن عدد المصريين تزايد في القرن الماضي. وكان الأهالي يموتون أحياء عندما يأتي العساكر لسحب ابنائهم من منازلهم من اجل مواصلة مشوار الحفر، واستكمال القناة، وطبعاً من يذهب لا يعود مرة أخرى، وبنهاية الحفر بعد عشر سنوات كان العدد الإجمالي للضحايا 120 ألف شخص والمحصلة هذا الصرح المهم، والكيان البحري العملاق قناة السويس. ويبدو انه لم تكن هناك في تلك الايام لجان حقوق إنسان ترفع صوتها وتطالب بالحياة لهؤلاء البشر الذين كانوا يموتون اثناء الحفر بسبب انهيارات رملية لفتح مجرى للقناة في الرمل، ثم يدفنهم زملاؤهم، ويواصلون الحفر، ومن ثم يندفن الزملاء ويكمل آخرون. ما ذكرني بذلك العدد من ضحايا حفر قناة السويس هو ضحايا حفريات الصرف الصحي في مدينة جدة، الذي بدأ في الاسبوع الماضي، حيث توفي أربعة عمال اثناء وقوعهم في اعمال حفريات للصرف الصحي، وقد سارعت الشركة المنفذة فوراً لدفع مائة ألف ريال لأسر الضحايا، وكأنها تعترف رسمياً بأنها سبب موتهم، لعدم اتخاذها الاحتياطات اللازمة اثناء حفرهم في هذا الجو القاتل في مدينة جدة الذي تصل حرارته إلى 50 درجة مئوية. ولم يفق الناس من هذه الكارثة، حتى تكررت الفاجعة صباح يوم الخميس الماضي للمرة الثانية حين تم إنقاذ عاملين وتوفي عامل آخر اثر انهيار حفرة أخرى للصرف الصحي عليه، حيث وجد مطموراً في الطين في حفرة عمقها خمسة امتار، بعد انهيار الجدار الجنوبي عنها، مع قطع من الاسفلت والمصدات. والسؤال كم سيبلغ عدد ضحايا الصرف الصحي في مدينة جدة إلى ان يكتمل المشروع بعد خمس سنوات ؟. هل ينبغي ان يموت المئات في سبيل الجماعة، وفي سبيل ان تنعم مدينة جدة بالصرف الصحي الذي عانت منه المدينة كثيراً، رغم تجملها؟ هل الشكوى التي ظلت جدة تشتكي منها عشرات السنين من مآسي عدم وجود تصريف صحي ستنتهي، بفاتورة يدفع ثمنها من يقومون بالحفر، وتنتهي ارواحهم بمائة ألف ريال؟ لاشك ان المشروع حيوي، ومهم، ولكن، لا ينبغي ان يفقد فيه اشخاص ارواحهم من اجل أن يستكمل؟ ويبدو ان الحادثة الأخيرة قد اثارت الكثيرين، حيث سارع الدفاع المدني لفتح تحقيق لتحديد الجهة المتسببة، وهي الشركة المنفذة للمشروع، حيث إنها قد دفعت لأسر الضحايا الأربعة لأنها لم تقم باستيفاء كامل شروط السلامة للعاملين وحتى إن كان العمال هم السبب لعدم فهمهم لأساليب الحفر، فالشركة تتحمل السبب لأنها هي التي حفرتها ولم يشرف عليهم عمال مهرة، كذلك هي المسؤولة عن عدم استخدام وسائل صحية في الحفر. وكما اشارت جريدة الحياة فإن مكتب تنسيق المشاريع في امانة جدة هو الجهة المسؤولة عن متابعة تنفيذ مشاريع الصرف الصحي، وهو الذي يصدر التعليمات والاشتراطات الخاصة بالعمل فيها، وهذا بالتالي يجعل المسؤولية الاهمال، والاستهتار بأرواح البشر، وعدم الاكتراث بقيمة الإنسان. مسؤولية مشتركة بين كل الجهات، وينبغي محاسبة كل هؤلاء ادبياً، ومعنوياً وقانونياً، حتى لا ينتهي مشروع الصرف الصحي في جدة ويتمتع المواطنون به على حساب مئات الضحايا المدفونين.