الحمد لله. أخيرا.. أنا الآن في بيت الله الحرام. هكذا قلت لنفسي وأنا أضع قدمي اليمنى على رخام الحرم لأول مرة في حياتي، قبل أن أخطو باتجاه الكعبة خطواتي الاولى لأداء العمرة. اندمجت في سياق الحالة التعبدية الأولى ونسيت ما أحمله من أسئلة تراكمت داخل وجداني على مدى سنين الوعي الماضية كلها. نسيت ما حولي من بشر أتوا من كل فج عميق كما أخبرتنا الآية القرآنية وكما رأينا فيما سبق مناسك الحج من خلال مراقبتنا لهيئات هؤلاء البشر. كنت أردد أدعيتي بصوت منخفض أو ربما بلا صوت على الاطلاق. غالبا كنت أغمض عيني واسير بهدوء شديد على الرغم من الزحمة الشديدة والتي علمت بها لاحقا ، ففي تلك اللحظات لم اشعر بأي زحمة وأنا أطوف وأطوف وأطوف .. سبع طوافات لا أدري من أين جاءني بها كل هذا الكلام الذي تردد صداه داخلي كأدعية، ولا أدرى إن كان ذلك الصدى قد جاوز الداخل الى الخارج أم لا . حتى أنني لم أكن أسمع ما يقوله الآخرون حولي هل كان هناك آخرون حقاً؟ لم أشعر بهم حولي، ولم اسمع أصواتهم وكنت غائبة تماما.يتموج جسدي ككتلة مرنة بين الجموع ويتحرك وفقا للاتجاه الدائري الواحد، لكنني لا أشعر به أيضا. كان جسدي جزءا من كتلة البشر الملتحمة ببعضها البعض وليس مني . للحظات فكرت أنني لا علاقة لي بجسدي. هو يتحرك لوحده . وأنا في مكان ما أراقبه وأعود لغيابي. انتهى الطواف بأشواطه السبعة أخيرا، وسقط شعاع من أشعة الشمس المقابلة لي على عينيّ المفتوحتين الآن. أستدرت نحو المدرج الرخامي الذي أشار له من يرافقني باعتباره مكان الخروج .. صعدت بخفة وابتسمت بفرح وأنا أرقب الآخرين يشربون ماء زمزم، كما أشارت اللوحة المعلقة فوقه بثلاث لغات. وقفت معهم فناولني أحدهم كوبا صغيرا ارتشفته على مهل وأنا أستذكر ما اختزنته الذاكرة من أساطير طفولية حول هذا الماء تحديدا. هذا أنا الآن .. عنده . لكنه ليس بئرا وليس نبعاً ولا ينبوعاً حتى، كما ارتسم في خيالي الطفولي وأنا أسمع قصة السيدة هاجر مع صغيرها، وكيف تفجر بئر زمزم تحت قدمي الصغير وهو يبكي عطشا ويدفع الارض برجليه .. هاهو زمزم..مجرد صنبور. قمعت السؤال الجديد الذي نبت فجأة بين أضلاعي ، وسألت عن الخطوة المقبلة كي أتم العمرة الأولى في حياتي.ركعتان هنا.. في هذا المكان تحديدا. وها أنا أصلي ركعتين في اللامكان. لم أعرف من أين وجدت مساحة تكفي لسجودي وسط هذا الحشد. الواقع أنني كنت أسجد فأجد أرضا سرعان ما تختفي بمجرد أن أرفع رأسي من السجود ثم تعود لتظهر لي وأنا أهوي نحوها ثانية..وهكذا. كنت ما أزال مأخوذة بهيبة المكان ودهشة الاكتشاف الأولى عندما وجدت نفسي أبدا رحلة السعي بين الصفا والمروى. كل الامكنة في بيت الله الحرام تبدو مألوفة لي وكأنني سبق وان زرتها عشرات المرات ، أو لعلي أقمت فيها ذات حياة لا اتذكرها. دهشتي الكبري أنني لم اندهش كثيرا من أي شيء. كنت أوجه نظري صوب المعالم واحدا تلو الآخر وكأنني أتفقدها فقط، وأطمئن على معرفتي اليقينية بها. والآن فقط .. في الشوط الخامس من السعي بين الصفا والمروى شعرت بالناس حولي وبدأت باكتشاف الآخرين. سمعت أصواتهم وترددت في أذني أدعيتهم ، ابتسمت لكثيرين ، ومسحت على رأس طفل تحمله امه على كتفها مشفقة عليه من الازدحام الشديد. الآن فقط اكتشفت أنه ازدحام شديد. يا لله .. كيف إذًا سأتجاوز تلك الكتلة البشرية المتلاحمة التي تهتز في أعلى المروى؟ .. سألت نفسي متناسية أنني عبرتها فعلا قبل ذلك أربع مرات من دون أن أجد صعوبة.. لكن الصعوبة بدأت عندما بدأ الوعي. وتكاثرت الأسئلة وتراكمت فوق أسئلتي القديمة التي أتيت بها لبيت الله.. ولم أكن متأكدة انني سأجد الأجوبة النهائية لها. أسئلتي في واقع الأمر بلا أجوبة، وأنا أعرف أنها بلا أجوبة ومع هذا كنت أنتج المزيد منها دائما. تشاغلت عن الأسئلة المضاعفة عمدا، وأنا أمسك بيد من معي لأصعد ذلك الصعود الخاطف للأنفاس قليلا.. ألتحم بالكتلة البشرية التي بدت لي وانا أدخلها وكأنها تتفكك شيئا فشيئا.. أحاول أن ابلغ نقطة المنتصف فيها قبل أن اغير وجهتي لأعود في شوط جديد نحو الصفا، فيخالطني ذلك الصفاء الذي أوحت به الكلمة واستدرجته لأعيشه في تلك اللحظات. هل قلت "استدرجته"؟ ..هذا ما حدث فعلا ، ربما استجلابا لما كنت أسمعه من العائدين من رحلة الحج غالبا بروحانيات دافئة. لكنني في يومي الاول في مكة ، وساعتي الأولى في بيت الله الحرام، وشوطي السادس في السعي، ومع هذا لم يؤاتيني ذلك الشعور الروحاني الشهير. للتو خرجت من حالة غياب كلي عن المكان والزمان لأدخل في حالة من الوعي أعادت لي التفكير بأسئلتي.. ولا شيء بعدها.. (يتبع).