• في ظل ما تشهده عاصمتنا الرياض من نمو سكاني سريع إلا أنها تفتقد وسائل النقل تماماً، ولا ندري كيف سيكون وضعها بعد مضي سنوات قليلة. • هل ستتحقق أحلامنا ونستخدم القطارات، أم أن حدود طموحنا أكبر من ذلك، وبالتالي نبدأ من حيث انتهى الآخرون ونستخدم اليخوت والقوارب عبر البحيرات الصناعية، أم يستمر التسويف وتتبخر مشاريعنا القادمة ونعود إلى العربة والحمار، أعزكم الله، أو "السياكل "والدراجات النارية"، تلك هي الحلول المتاحة وما تحقق أي منها سيسهم بلا أدنى شك في فك الأزمة المرورية، ويخلصنا من كابوس الحوادث، ويقلل من ارتفاع السكر وضغط الدم، ويوفر على المرور ووزارة الصحة كثيرا من النفقات المالية. • ومراعاة لحالة الضغط، وتخفيفاً لدرجة التوتر سأتجاهل تماماً الصيف الخانق وأسرد لكم برومانسية الوصفة المرورية في الأجواء الربيعية الممطرة، التي رصدتها ذات يوم فوجدتها تحكي عن شوارع تحولت إلى بحيرات احتضنت سلسلة من الشاحنات المتلاصقة، وسيارات نقل مكشوفة مملوءة بالأخشاب، وأخرى بالصخور وكذلك بالرمال، وسيارة متهالكة معطلة، وعمال متكدسين في حوض سيارة، بين تلك المشاهد مئات السيارات الصغيرة متجهة إلى المدارس والأعمال إحداها يقودها بأناقة رجل رومانسي حاول يلتقط أنفاسه فتوقف قليلاً على جانب الرصيف متأملاً في إشراقة الشمس بعد توقف هطول الأمطار ومتكدراً من اكتظاظ السيارات ومحتاراً في تحديد مساره وحالة الطريق تزداد سوءاً والوقت يمضي وطابور المدرسة لا يمهل والخط الأحمر لا يرحم وطفلته تلعب داخل السيارة ببراءة كالعصفورة وابنته الكبرى تبكى بسب التأخير خوفاً من عقاب المديرة. • الوضع ببساطة، همجية، تهور، عشوائية، ضجيج، النتيجة ضغوط وقلق وتوتر جميعها متناثرة من كل الاتجاهات وسلوكيات متعددة، سائق تنحرف سيارته فجأة بسبب انشغاله في كتابة رسالة نصية قصيرة، وآخر في نقاش حاد مع زوجته، وآخر يلوج أسنانه بالسواك وبعنف، وآخر يتثاءب، وآخر في النقيض تماما "ليموزين" يستعرض بحركات بهلوانية في انفه، وآخر يبصق على الإشارة ويسب ويشتم من صنع "ساهر"، والمسكين الثاني مستعجل وأمامه "خردة" سيارة بيضاء وقائدها الأسمر ماسك أقصى اليسار ويمشى بالحركة البطيئة، وهناك الصورة تصطدم في كل مشهد بواقع مأسوي تروي صراع قائدي السيارات كل مساء وصباح وتعكس معاناتهم اليومية. • الحديث عن تلك المأساة المرورية يوتر الأعصاب فدعونا أفضل نعود الى صاحبنا الرومانسي والرائق جداً الذي عاش متأملاً عدة دقائق في إشراقة الصباح وقطرات الأمطار ومستمتعاً على أنغام فيروز "شمس الشموسة"، ومتجاهلاً الفوضى العارمة والضجيج المقزز، وعائداً الى ذكريات الطفولة وشبابه وظروف نشأته، وهناك تحكى ملامح تجربة حياة في كل تفاصيلها ووقائعها فحاول نقلها إلى ابنته الكبرى لعله يخفف من ألمها ويقلل عناء المسافة المتأزمة بسبب حادث وقع بين شاحنة و3 سيارات صغيرة وحوادث أخرى هنا وهناك، ودوريات المرور كعادتها غير موجودة، وسيارات "نجم" تعثر عليها معرفة مكان الحادث، ومنطق الشركة يقول إن يأتوا متأخرين خير من ألا يأتوا أبداً.!! • والرومانسي المسكين مكتوف الأيدي لا يمتلك حلاً أو حيلة، فأخذ يسترجع ذكرياته وبدأ يصف الحياة في الماضي، عربة يجرها حمار، وطفل يركض عارياً بين الطرقات، وفضلات متناثرة من كل مكان، فقاطعته طفلته الصغرى، وليس ابنته الكبرى الموجه إليها الرسالة والكلام، فقالت بابا نفسي أركب حماراً، السيارات مخيفة ولكن الحمار أليف وهادئ، ردت الابنة الكبرى، سمعت يا بابا هديل تقصد إن حياتكم الماضية قناعة وبساطة وما فيها قلق ولا توتر، أقول يا بابا تدري لو كنا على الحمار كان وصلنا قبل السيارة؟! • انتهى الحوار ولكن يبقى السؤال ما وسائل النقل المتاحة؟ وسعياً إلى البحث عن النتائج قررت خوض التجربة بصحبة طفلي الصغير بعد التفكير وقع الخيار على الوسيلة، أتدرون ما هي؟ طبعا ليس على ظهر الحمار بل على "الباص" أبو سبعة أرواح وسيد أناقتنا، انه المدعو "خط البلدة"، بصفته من تراثنا العريق، وبحكم أنه الوكيل الحصري للنقل العام، أما الخيار الآخر طبعا فليس "ليموزين" حضرة جناب الأخ رفيق كلا إنه المستر مترو دبي بصفته من الصناعات الغربية الدخيلة على المنطقة. • دعونا في الحاضر وننسى المستقبل تماماً ونعود إلى "باص البلدة" رمز تراثنا المشرق، انتهزت الفرصة وتصورت بجانبه مع ابني الوليد في لقطة تذكارية في منتهى الروعة، امتطينا الباص من شارع العليا والإشارة خضراء، ولكن الشعار واضح جداً "ممنوع اتجاه جميع السيارات يميناً بأمر خط البلدة"، ذلك فقط من باب حفاوة صاحب الباص واهتمامه بالركاب، والأسعار ربنا يديم الرخص ولا يغير علينا فقط بريالين عكس تماماً مترو دبي غالٍ وممل ومزرٍ، أما "خط البلدة" فقمة الرقي وهذا الانطباع لمسته عن قرب ونحن على متنه في إحدى الرحلات الداخلية، لدرجة أننا كنا في غاية البهجة وفرحتنا تفوق الوصف.. نضحك، ننشد ربوع بلادي، نلعب، حقاً إنها تجربة ممتعة لا تعرف الكلل أو الملل أو حتى القرف، وليس هذا فحسب، بل إن "خط البلدة" بطل صامت ويتنفس ولاءً وانتماءً لكم وللوطن، عكس بعض الشركات الوطنية التي سخرت خدماتها خارجياً "وسابتكو"، فاستمتعوا مع باصكم المفضل "خط البلدة"، الذي ظل عدة سنوات يحلق خارج السرب، فلا غرو أن يكون موضع فخر واعتزاز ويقفز دائماً في الطليعة، والإشارات الضوئية وخطوط المشاة تبصم بالعشرة أنه لا يزال قوياً ورشيقاً كالجمل الهائج!! وقفة: • أثناء توقف الباص الأنيق "خط البلدة" في المحطة رقم 29، فاجأني طفلي الصغير بسؤال جداً بريء، وملامح وجهه يكسوها التعجب والخجل: "بابا هذا مترو بلدنا"؟! • المحطة الأخيرة: اللهم ارزقنا القناعة على تقبل الأشياء التي لا يمكن تغيرها، واحفظ لنا يا الله وطننا وقادتنا.. ودمتم بخير.. والى اللقاء.