من أجمل ما احتفظت به ذاكرتي من مواقف، قصة طريفة رواها لي صاحب لي، قال: كنّا نعيش في قرية نجدية نائية، وكان في قريتنا مُعلِّم مصري، كانت تربطه بأبي علاقة ود، فكان يأتينا دوماً، وذات صيف سافر مُعلِّمنا لمصر لقضاء إجازته، وحينما عاد، زارنا حاملاً هدية لوالدي. كانت داخل كيس كبير، فتحناه فوجدنا بدلة رسمية؛ بنطال ومعطف (جاكيت) وقميص مع ربطة عنق حمراء! وقف والدي مشدوهاً يُقلِّب تلك الهدية محاولاً فك طلاسمها.. «ما هذه يا ربي!». لم نحتمل الموقف، فانفجرنا ضاحكين! ماذا سيعمل والدي ببدلة غربية، وهو الذي لم يتجاوز في حياته حدود نجد والحجاز! ذكَّرتني هذه القصة بفكرة المترو الذي نسعى إلى استيراده، وإلصاقه على وجه مدننا، دون استيعاب ثقافته. المترو ثقافة غربية عميقة الجذور، وليس مجرد ترف تقني في عالم النقل يمكن تركيبه بسهولة في أية بيئة. كما أنه ليس فكرةً وليدةً، فقد وُجِدَ في لندن منذ عام 1890م (كلمة مترو اختصار لعبارة Metropolitan Railway وتعني سكة حديد المُدُن، أو قطار المُدُن)، لذا أعتقد أن جلب المترو إلى مدننا سيكون شبيها بإهداء بدلة غربية لشيخ نجدي، لم يعرف في حياته سوى الثوب والغترة، وبشتاً وبرياً سميكاً يحميه من البرد. ترعرع المترو في مجتمعات تشيع فيها ثقافة المشي، يعتمد أفرادها على أقدامهم لتأدية مهام يومهم، للذهاب إلى العمل أو الدراسة أو التبضع أو الترفيه، والعودة إلى البيت آخر النهار، فكان المترو يُسهِّل عليهم قطع المسافات الطويلة، ويوصلهم إلى أقرب نقطة من مقصدهم ليكملوا بأقدامهم الوصول إليه، أو يتجهوا إلى محطة الحافلات، ليكملوا حيثما كانت وجهتهم. صُمِّمَ المترو لمجتمع يهوى أفراده المشي، ويحبون القراءة، ويقدِّرون الوقت، ولا يرغبون في تضييعه عالقين في الزحام. وُجِد المترو في مدن مدعومة بشبكة واسعة لخطوط الحافلات، يهرب أهلها من اقتناء السيارات لغلاء أسعار الوقود، وارتفاع ضرائب استخدامها، وقلة المواقف لها، وفوق هذا كله، تتمتع هذه المدن بجو معتدل معظم العام، يساعد على المشي، لا ينغصه سوى زخات المطر أو ندفات الثلج التي يمكن اتقاؤها بملابس خاصة. خلَقَت رحلة المترو اليومية في الغرب أنماطاً سلوكية واجتماعية واقتصادية وفنية فريدة. وقد ظَهَرت في الغرب صحف صغيرة توزع في محطات المترو فقط، دون مقابل، حيث يتحمل المعلنون تكلفة تحريرها وطبعها. كما ظَهَرت بسبب المترو أغذية سريعة وفنون جميلة؛ فمما لا يعلمه الكثير أن فن الشخبطة الإبداعية على الجدران «جرافيتي» ولِد في أنفاق مترو نيويورك، في النصف الأول من القرن الماضي. إذاً المترو صُمِّمَ لمجتمع يهوى أفراده المشي، ويحبون القراءة، ويقدِّرون الوقت، ولا يرغبون في تضييعه عالقين في الزحام. وُجِد المترو في مدن مدعومة بشبكة واسعة لخطوط الحافلات، يهرب أهلها من اقتناء السيارات لغلاء أسعار الوقود، وارتفاع ضرائب استخدامها، وقلة المواقف لها، وفوق هذا كله تتمتع هذه المدن بجو معتدل معظم العام، يساعد على المشي، لا ينغصه سوى زخات المطر أو ندفات الثلج التي يمكن اتقاؤها بملابس خاصة. ومع اعتقادي بوجاهة أسباب إنشاء المترو لدينا وأهمها تخفيف الزحام المروري، إلا أني غير متفائل بفكرة تطبيقه محلياً، لأسباب ثقافية بحتة. أوضحهها أننا لا نتحمل مجرد التفكير في المشي، وقد تعودنا على التوصيل لغاية الباب. كُلّنا يلاحظ الازدحام الدائم أمام أبواب المطاعم والمحال التجارية، حيث يرغب الكل في الوقوف تماماً عند الباب رغم توافر المواقف قريباً منه، لأننا يزعجنا إيقاف السيارة أبعد قليلاً، ولو مسافة عشرة أمتار! كما أننا كشعب نكره الانتظار، ولا نحبذ الاصطفاف في طوابير، ونتذمر بكثرة من الوقوف في انتظار خدمة! كما أن ملابسنا بوضعها الحالي لا تساعد أبداً على التحرك بحرية تتماشى مع ثقافة المترو. فالثوب الأبيض للرجل سريع الاتساخ، ويفقد أثر الكي مع الحركة، وهو غير عملي للخطوات الواسعة السريعة، ويشفُّ عن عرق الجسم، وكذلك الحال بالنسبة لعباءة المرأة، فهي كالثوب، ليست مريحة لمشي المسافات الطويلة في جو حار. والسؤال المحيّر: إذا كان لدي سيارة (أو أكثر) مكيفة وجديدة، والجو حار، والوقود رخيص، ولا يوجد رسوم أو ضرائب لاستخدام الطريق أو امتلاك سيارة.. فلماذا أحشر نفسي في وسيلة نقل عامة مع أناس لا أرغبهم، لتوصلني بعيداً عن وجهتي المحددة، التي لا أصلها إلا وقد غلبني التعب والعرق والغبار؟ لست متفائلاً بنجاح المترو كوسيلة نقل عامة، فقد فشلت تجربة النقل الجماعي داخل المدن في الثمانينات (إن لم تخنّي الذاكرة)، مع وجود حافلات مهيأة ومريحة بأسعار رمزية، ولم يستعملها إلا العمالة الأجنبية، وتَجنَّبها، بل قاطعها المواطنون تماماً، حتى توقفت التجربة، وأُعِيد الاعتماد على الحافلة التقليدية القديمة «أتوبيس خط البلدة»، لذا أخشى أن يتحول المترو الجديد في النهاية إلى مترو «خط بلدة» عصري! [email protected]