خسرت الساحة الثقافية والفنية العربية أهم أعمدة الفن التشكيلي النحات العراقي البارع محمد غني حكمت، الذي أطلق عليه النقاد ( شيخ النحاتين العرب ) وغادر وهو حزين على مدينته التي عبث بها الغزاة حيث توفي في العاصمة الأردنية عمان عن عمر ناهز 82 عاماً قضاها في خدمة الفن والنحت والتشكيل داخل الوطن العربي وخارجه، ويعد الفنان الراحل واحداً من أعلام الفن في الوطن العربي، توفي بعيداً عن وطنه وعاصمته التي ملأ شوارعها بالتماثيل والجداريات وقال عن بغداد لن أدخلها بعد احتلالها لأنها فتاة عربية جميلة وعروس فتية عفيفة دنس ثوبها الطاهر ووسخ فستانها الاحتلال الغاشم. الفنان محمد غني حكمت أهم فرسان النحت العربي، ورمز كبير في الفن التشكيلي المعاصر، أنجز أعمالاً فنية عملاقة تذكي الروح الوطنية وقيمة الإنسان الحقيقي وصموده أمام الأعداء دفاعاً عن الشرف والوطن، وظل يناجي مدينته التي أحبها «بغداد» ويتغزل بها حتى توفي بمستشفى الخالدي في عمان بعد عشرة أيام من دخوله المستشفى بسبب معاناته من فشل كلوي، وأوصى أن يدفن جثمانه بالقرب من إحدى تماثيله الشاخصة في بغداد. وقالت زوجته غاية الرحال قبل أيام من رحيله «أنه على الرغم من مرض الفنان منذ عام، إلا أنه لم يتوقف عن عمله الإبداعي، ويصر على العطاء، إذ أنجز، أخيراً أربعة أعمال نحتية ستوضع في أماكن بارزة في شوارع بغداد رغم الاحتلال». وكان النحات حكمت حصل على دبلوم النحت من أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1959. وله مجموعة من التماثيل والنصب والجداريات في ساحات مدينة بغداد، منها «شهرزاد وشهريار»، و»علي بابا والاربعين حرامي»، و»حمورابي»، وجدارية مدينة الطب وقوس النصر في ساحة الاحتفالات الذي يجسد انتصار العراق على إيران إبان الحرب العراقية الإيرانية. أحد أعماله وأنجز حكمت في ثمانينات القرن الماضي إحدى بوابات منظمة اليونيسيف في باريس وثلاث بوابات خشبية لكنيسة «تيستا دي ليبرا» في روما ليكون بذلك أول نحات عربي مسلم ينحت أبواب كنائس في العالم، ليوصل رسالة إلى العالم أن العرب والمسلمين أخوة وأحبة لكل البشرية والأديان، فضلاً عن إنجازه جدارية الثورة العربية الكبرى في عمان وأعمالاً مختلفة في البحرين تتضمن خمسة أبواب لمسجد قديم وتماثيل كبيرة ونوافير. وساعد حكمت في عمل نُصب الحرية الذي كان من تصميم أستاذه النحات العراقي المعروف جواد سليم الذي وافاه الأجل في سن ال42 قبل اكتمال العمل الذي يرمز إلى مسيرة الشعب العراقي من زمن الاحتلال البريطاني إلى العهد الملكي ثم الجمهوري. وتم إنجاز نصب الحرية خلال عامين في فلورنسا بإيطاليا وهو بطول 50 متراً ويضم 25 شخصية، بالإضافة إلى الثور والحصان، ويعد أحد أكبر الأنصاب في العالم، ونُقل إلى بغداد عام 1961 في طائرة خاصة. جسدت ابداعات الراحل الفنان محمد غني حكمت جوانب من تاريخ العراق وتأثّر بالفنّ السومري، وبالآثار البابلية، وبالتراث الآشوري، وبالحقبة العباسية. وتظهر في تجربة النحات محمد غني حكمت سمات أسلوبية ناتجة عن تأثره «بالنحت السومري والأختام الأسطوانية السومرية بما تتركه من تعاقب الأشكال المستطيلة المستدقة في الطين الذي تطبع فيه وهو أمر ظاهر في العديد من أشكاله». جدارية الحرية ويعتمد الفنان رموزاً من روح الحضارة العربية وتراثها، وتُحاكي منحوتاته أشهر أساطير «ألف ليلة وليلة»، و»السندباد البحري»، و»كهرمانة»، و»شهرزاد»، و»شهريار»، و»بساط الريح» والأربعين حرامي. وكان الفنان محمد غني حكمت ذكر في مقدمة كتابه عام 1994 «من المحتمل أن أكون نسخة أخرى لروح نحات سومري، أو بابلي، أو آشوري، أو عباسي، كان يحب بلده». تمثال شهرزاد وشهريار وكان الناقد الفني مازن عصفور قال عن اعماله الفنان حكمت الذي حصل على جائزة احسن نحات من مؤسسة كولبنكيان عام ،1964 انه من النحاتين العرب البارزين في الحركة الفنية التشكيلية منذ أواسط القرن الماضي، تتميز اعماله النحتية بصبغة اسطورية ممزوجة بالتراث العربي عموما والرافدي خصوصا». ومن حيث التنفيذ التشكيلي، فإن الفنان حكمت يعشق جداريات النحت الغائر، التي يبرز فيها فضاءات نحتية مجسدة بطريقة دائبة الحركة، يروي فيها بصريا محطات مهمة في تراثنا، من ابرزها جداريته المتصلة بموضوع (درب الآلام)، وهو عنوان جداريته الشهيرة ببغداد». حكمت مع احد اعماله وأشارالناقد نفسه الى ان تقنيات النحات حكمت ومهارته عالية الجودة والحضور الانساني يبدو ماثلا في جدارياته ومنحوتاته، فهو يعمل بدقة فائقة في الصنعة وتطويع المادة الخام. الفنان حكمت نجم أفل كجسد وانطفئ كصوت وانامل رقيقية لكن اعماله ستبقى خالدة على مر الزمان في مناطقنا العربية التي تشهد ابداعاته العملاقة. كهرمانة والاربعين حرامي