عند زيارتك لمتحف الفنون المعاصرة في مدينة نيويورك، أنت لا تزور متحفا بالمعنى المعتاد للكلمة، بل ذروة الجنون، والسوريالية، تلك النقطة التي تتمكن معها من قراءة لوعي الإنسان المعاصر ولا وعيه، وتحديد كيف أثرت الأحداث والتغيرات الهائلة التي تعرض لها الإنسان خلال المئة والخمسين سنة الأخيرة على أرواح فنانينا التي جمعت أعمالهم هناك، لتعبر بصورة ما عن الهزات التي تعرض لها الإنسان في الوعي، عن نفسه، وما حوله. فتجد اللوحات السوريالية والدادائية، ومدارس أخرى منوعة، عبثية ورومانسية. يمكن من خلال قراءة الأعمال المعروضة في «موما» التعبير عن كل ما يتعرض له الإنسان المعاصر من اللاجدوى والاغتراب وانعدام المعنى، والخوف من المجهول، والقلق على مصير الإنسانية. نجد تبايناً مثيراً في الأعمال المعروضة، من أجمل لوحات سلفادور دالي، وأكثرها اكتناز بالمعاني، إلى النبالة «النبيطة» الإلكتروني!. أعمال دالي تجاوز تجسد بحق قمة نضج السوريالية، فن حقيقي يعجز خيال الإنسان على التفكير به، لكن رساما مبدعا كدالي استطاع أن يجسد هذا النفور وتلك الدقة بلوحات لا يمكن نسيانها. أما النبالة الإلكتروني فهو يجسد خيال الإنسان المعاصر المعتاد، الذي أصبح يفكر في كل شيء كآلة، بأزرار وشرائح ومرتبطة بالأقمار الفضائية، حتى تلك النبالة الأزلية. أو حتى سجادة الصلاة بتصميم رقمي. كتلك المعروضة في «موما» لفنان تركي ! هل لتأويل الأعمال الفنية حد ؟ هل يمكن تأويل كل شيء ؟ هل لكل عمل معنى حتى ذاك الذي بلا معنى ؟ يصبح حينها انعدام المعنى معنى ! ربما كان هذا الحديث مكررا ومملاً، لكنك تقف وجها لوجه أمامه عندما ترى بعض الأعمال المعروضة في «موما» لتعبر عن ذروة المعاصرة الفنية. بكل جنوحها وجنونها. ما معنى مجموعة من اللوحات البيضاء الفارغة؟ ما المغزى من عرض لوحات بيضاء بأطارات ملونة مختلفة ؟ ثلاث لوحات فارغة محاطه بإطارات ذات ألوان زاهية مختلفة أو لوحات بيضاء مقلمة بلون أخر؟.. هل تعني اتفاق جوهر الإنسان واختلاف ظاهرة ؟!! يمكن أن يكون هذا معنى للوحات ومبرر لعرضها. أو الأعمال الفنية لا تحتاج مبررات لعرضها أصلا؟! لكن من سيحدد أن هذا عملا فنيا بالأساس؟ من حكم على كومة «التبن» المعروضة في «موما» بأنها عمل فني؟! أو حطام السيارة الملون؟! أو حتى العربة التي تحوي «كومة» من شيء ما، قد نجدها في أي قرية زراعية في العالم، مرمية ويعلوها الصدأ. أو لوحة الموناليزا الموضوعة في إحدى زوايا المعرض، بالتأكيد ليست لدافنشي فتلك تعرض على بعد آلاف الأميال في متحف اللوفر، بل نسخة من الموناليزا رسمُ عليها «شارب» و»لحية» فعرضت في «موما» بتلك الزوائد التي خطها فنان ما! بعض الأعمال لا تختلف عن أي كتابة عشوائية على حائط أي حي فقير من هذا العالم. لكن لم يحظ أولئك المعدمون بمن يجعل لخربشاتهم قيمة، فيعلقها في معرض فني. ذلك فن لم يكتشف بعد ويقدر. بعض أقسام «موما» تحولت لما يشبه أي معرض أثاث في أي مدينة حديثة من العالم، حوت تصاميم غريبة لكراسي وطاولات وسلال مهملات. لتجسد أقصى معاصرة فنية ممكنة. تقدير ما هو مزامن من فن، ماله معنى وقيمة تجاوز الرسوم التقليدية الطبيعية المغرقة في رومانسيتها فترسم أطباق فواكه أو خضروات، وعناق عشاق. بعض الأعمال مثيرة لشدة غرباتها، ولانفتاحها على التأويل، كالنحت لوجه بشري في فمه قارورة لمشروب غازي. هل يمكن اعتباره احتجاج رمزي ضد الرأسمالية ؟.. ربما كانت كل تشوهات التي حكاها الفن في المعرض تعبيراً عن تلك الفجوة. اغتراب الإنسان المعاصر الذي جعله يجنح إلى الجنون، فناً. أعمال الأمريكي جاكوب لورانس تحكي بكل حرفية المعاناة التي عاشها السود في الولاياتالمتحدة خلال سنوات الاستعباد والعنصرية، فباتت شاهدا على حقبة تاريخية، يراد لها أن تبقى حية في الذاكرة كي لا تتكرر في أي مكان من العالم. أما أعمال الفنان الفرنسي ماكس إرنست فتجسد جنوح المدرسة «الدادائية» بكل نقماتها على الحرب العالمية، وتجسيد كل تناقضات العالم، وما حمله البشر آنذاك على الكون من غل لا حدود له، جسد فنان بأعمال تلك المدرسة. شمل المعرضة مجموعة من المشاهد المصورة القصيرة التي عرضت على شاشات صغيرة ومتوسطة، تباينت جودتها وجنوحها، لكن لا يمكن إلا أن تقول: هذا الشيء معاصر أكثر مما يجب.