نشرت جريدة «جويش كرونيكل» صحيفة الطائفة اليهودية في بريطانيا، في يوليو 13 من شهر مايو الجاري، خبراً مفاده أن قساً مسيحياً بريطانياً ومن أصدقاء الأمير تشارلز، اضطر للاعتذار بسبب ملاحظة أدلى بها أثناء معركة الانتخابات في مجلس العموم التي جرت في الأسبوع الماضي، وكان مرشحها «مايكل هاورد زعيم حزب المحافظين، اليهودي المعتقد». وكان هذا القس واسمه «كريستوفر ملهولان» قد أسرّ إلى احدى الصحفيات بأنه حينما التقى ب «هاورد» زعيم المحافظين في زفاف الأمير تشارلز لم يترك في نفسه انطباعاً طيباً.. وحينما قدمت له قطعة ساندويتش بلحم الخنزير قال: «من المؤكد أن هذا الساندويتش ليس من نصيب مايكل هاورد.. لقد قلت دائماً إنني لا يمكن أن أثق بشخص لم يتذوق لحم الخنزير». ما ان تسرب الخبر حتى ضجت الدنيا وقامت قيامة اليهود وعلى رأسهم اللورد جانر، رئيس جمعية البرلمانيين اليهود في مجلس العموم، منددين بالقس معتبرين ذلك اهانة لليهود - بحكم أن اليهود لا يأكلون لحم الخنزير - مما اضطر القس إلى تقديم اعتذار مكتوب نشرته الصحافة.. من حق اليهودي أن يدفع عن كرامته الدينية عند الإساءة أو السخرية بها.. فالمعتقد الديني حق مكفول بقوانين السماء والأرض، وبجميع الأعراف، والمبادئ، والأخلاق الإنسانية، حتى ولو كانت مزحة كالتي تفوه بها القس المسيحي.. فكيف يجرؤ هذا القس على المساس بالطقوس اليهودية، وكل ما يتعلق باليهود أصبح اليوم أمراً مقدساً لا يجوز المساس به، أو التحدث عنه، حتى ولو كان أمراً سياسياً وغير ديني..؟ ولعلكم تذكرون تلك الهوجة، والثوران، والهيجان، على الفيلسوف الفرنسي «روجيه جارودي» حينما ناقش رقم مذبحة «الهولوكوست» حيث أثبت من خلال الوثائق التاريخية والصحفية بما لا يدع مجالاً للشك بأن الرقم الذهبي لستة ملايين يهودي، والذي أصبح رقماً مقدساً، وقولاً مقدساً لا يقبل الجدل، أو المجادلة، وأمراً مسلماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أثبت جارودي أن هذا الرقم مبالغ فيه مبالغة شديدة.. فحاصره اليهود، ومن ورائهم الإعلام الغربي، وبالذات الأمريكي، واتهموا الفيلسوف والكاتب الكبير بالكذب ومعاداة السامية، ولم يحترموا وقار علمه، ولم يحترموا حق المفكر المكفول في كل القوانين الدنيوية.. فآذوه، وضيقوا الخناق عليه.. وشنت أقلام «المجاهدين» العرب في صفوف الصهاينة، حملة مسعورة ضد الرجل، اعلاناً منهم للولاء الإعلامي الصهيوني المقدس.. وأذكر أن أحد أصحاب الأفكار الرخوة، والمواقف الرخوة، والكتابات الرخوة، ومعه زمرة كبيرة، تبنى موقفاً ثقافياً متوازياً مع الموقف الغربي حينما تم الاعتداء على تمثال بوذا في أفغانستان، معتبراً أن ذلك يدنس القيم الإنسانية، والقيم الثقافية والحضارية.. وكان هذا اوأمثاله من «المجاهدين» في سبيل الفضيلة الغربية لا يسمع بموقف غربي إلا جرى خلفه حقاً كان أم باطلاً.. وعندما كانت سماء بغداد تحترق.. وحينما تحولت كتبها، ومكتباتها، ومقتنياتها، وذخائر مخطوطاتها التاريخية النفيسة إلى سحب دخان، بسبب الصواريخ والقنابل الأمريكية، لم يكتب حرفاً واحداً، ولم يذرف نقطة حبر واحدة، هو وزمرته.. بل كان يبشر بالعولمة، ويطبل ويزمر للحرية والديمقراطية الأمريكية، ويرقص ويهز قلمه، كما تهز أية راقصة لخناء ردفيها في محفل للساقطات. وها هو أحد عرابي الفضيلة الأمريكية، وحقوق الإنسان الأمريكية، وديمقراطية الدم والقتل المجاني يقول - معلقاً على حادثة تدنيس المصحف الشريف: «لماذا هذه الضجة حول تدنيس المصحف..؟ إننا نجيد تضخيم الأشياء الصغيرة»!! أرأيتم إلى أي مستوى من الهوان وصلنا؟! فمزحة على طاولة حول لحم الخنزير تثير ضجة صحفية يهودية في بريطانيا كلها.. ورأي فيلسوف في رقم مزعوم حول اليهود، يجعل طواحين الإعلام الغربي تدور أعواماً طويلة.. منددة متهمة له بمعاداة السامية، فيعتقل ويحاكم!! وتحطيم صنم يمثل شخصاً لا دينياً يعتبر فجراً ونكراً في حق الثقافة العالمية!! ورمي كتاب مقدس في «المرحاض» يؤمن به قرابة الملياري مسلم، يعتبر أمراً صغيراً لا يستحق الاستنكار!!. قلت أكثر من مرة إن الهزيمة ليست عيباً، والأيام دول.. والحرب ليست هزيمة إلى الأبد، ولا انتصاراً إلى الأبد.. وكل الأمم عانت من الحروب الجائرة، والظالمة، ولكنها في النهاية انتصرت.. وأعادت كرامتها، ومحت ذلها.. لكن الهزيمة المنكرة، هي هزيمة الذات، هي هزيمة الأمة من داخلها، واحساسها، واستسلامها للهوان، والمذلة، إلى درجة تقديس العدو والمحتل.. إننا نعاني حقيقة من عبث فرقة مستشرية أخذت «مقاولة» قتل الشعور، والكرامة العربية، وتسخيف واستهجان كل ما يتعلق بالمقدسات، والثقافة القومية!! هؤلاء الذين تخرجوا من حظائر التدجين، وأخذوا على أنفسهم عهداً بالموالاة، والغيرة على أي سلوك أمريكي شاذ ينتقد، أو يشجب، أو يعاب. هؤلاء لم يتحركوا أو يهتزوا، ولم يكتبوا حرفاً واحداً، أمام مشاهد المعتقلين في غوانتنامو، وهم يقادون ويجررون في الأصفاد، وقد كممت رؤوسهم بالأغطية الحمراء، وهم يدفعون ويتعثرون في سلاسلهم، وأغلالهم، أمام شاشات التلفزيون بشكل يستفز كرامة وضمير الحجر.. وتمارس عليهم في الخفاء، أقبح، وأبشع ألوان الإهانة، والاذلال، والتعذيب، بلا محاكمة قانونية ولا عدالة إنسانية، ولم يتفوه من أولئك أحد بكلمة واحدة حول الإنسانية وحقوق الإنسان..!! ولعل في سجن «ابوغريب» نموذجاً مصغراً لجسامة الإهانة، والاذلال، والعبث بالجسد العربي المذل، الرخيص، الذي لم يجد من يدافع عنه.. إن لم يكن دفاعاً عربياً، فدفاعاً أخلاقياً، وحضارياً، وثقافياً، بل نراه قد جوبه بصمت مخز من فرقة «أبطال الهزيمة»، الذين ذبحونا بكثرة وصاياهم حول ضبط النفس، والتحلي بفضيلة الصمت، والاستجابة للأمر الواقع.. في ظل صمت عصبة الأمم، أو عصابة الأمم.. ومجلس الخوف، لا الأمن.. وحقوق الإنسان الغربي، وحقوق البهائم والحيوانات الغربية، التي تمنع قتل الحمام في مسابقات الرمي، وتقيم المظاهرات الحاشدة لحماية الثعالب الغربية من الرمي والترويع، وتقيم الاحتفالات لأعياد الكلاب، التي تأكل المن والسلوى.. وتنام على الموسيقى.. بينما أطفال فلسطين، والعراق، يغرقون في دمائهم، ودموعهم، ويقادون من موت إلى موت.. ومن رعب إلى رعب.. تقوض بيوتهم، وتهدم مساجدهم، وترسم الصلبان على مصاحفهم، ويطالبهم «أبطال الهزيمة» بخنق أصواتهم، والكف عن البكاء والاحتجاج.. حتى ولو احتلت مقدساتهم، ودنست مصاحفهم، وديست بالأحذية ، ورسمت على اغلفتها الصلبان..