حراك فكري كبير وملحوظ أخذ يتشكل بقوة في المشهد الثقافي الذي أخذ يتسع بتوسع النخبة الذين حملوا على عاتقهم هم التغيير، وهم الإثراء الثقافي، الذي يسعون من خلال نشر مضامينه الفكرية أن ينعكس على هذا المجتمع فكراً وجوهراً وشكلاً فتنوعت أدواتهم، وأصبحت مفاتيح الخلق والإبداع، والتأمل والتحرر من القيود القديمة في المجتمع همهم الأول، وبالرغم من أن الإثراء الثقافي الفكري موجود نتلمسه في كل الظواهر الثقافية، إلا أنّ المجتمع مازال يدور حول الدائرة ذاتها من الانغلاق على عاداته وتقاليده وصوره النمطية التي لم تقتصر على تكرار نفسها، بل وصلت إلى خلق صور أكثر جموداً من خلال تعاطي أفراد المجتمع لهمومهم الحياتية وسلوكياتهم اليومية التي بدت بما لا يقبل الشك بأنها لم تتأثر في ذلك الإثراء الثقافي الفكري الداعي إلى صورة مجتمعية أكثر مثالية تتفاعل بعمق لكل المعطيات الاجتماعية وعلى صعيد مختلف المستويات، فأصابع التغيير "الهدف"، وخلخلة الأفكار الاجتماعية البائته هو ما يدور حوله هؤلاء من خلال ما يكتبون وما يطرحونه من قضايا تتقاطع مع المجتمع، فتنشط وتتحرك وتتنوع من قبل النخبة من المثقفين، إلا أنها لم تستطع أن تغير من قناعات المجتمع ليسير جنباً إلى جنب مع هذا التوسع الثقافي فينعكس على تعاطيه نحو القضايا والمشاكل والأمور التي تمس حياة الإنسان، حتى أصبح التغيير يصعد إلى عنق الزجاجة فيلون شكلها الظاهري بكثير من القشور، ولم تكن هناك محاولات جادة للنزول إلى العمق وإحداث التغيير المطلوب وفق الإثراء الثقافي الكبير من قبل العامة من الأفراد، فلم ينعكس ذلك على تعاطينا مع المرأة والعمل والعلم والزواج والعادات والتخلص من العقلية القبلية وتمجيد الذكورية. فلماذا لم ينعكس الحراك الفكري على الحالة الاجتماعية والثقافية المجتمعية؟ ولماذا لم يؤثر في مجادلة قيم وعادات متجذرة في الذهنية العقلية؟ هل الخلل في الحراك لكونه نخبويا، أم لأنه لم يتماش مع قضايا المجتمع اليومية؟ أم أن للممانعة الاجتماعية دورا في عدم تماس الخطاب الفكري التجديدي مع المجتمع؟ وماذا عن القرار المؤسسي ودروه في إحداث ذلك الحراك بين الخطاب الفكري والمجتمعي؟، أسئلة طرقتها "الرياض" لتحدث الحراك الفكري حول قضية "حراك" يسير في المجتمع دون عجل. الواقع الاجتماعي يقول الناقد "د. سعيد السريحي" لم يكن لهذا الحراك الفكري أن يتحول إلى واقع اجتماعي مادام هذا الحراك الفكري لا يرتكز إلى مؤسسات قادرة تترجم تطلعاته في برامج محددة ووفق أطر زمانية ومكانية معينة، لا يمكن للحراك الفكري أن يتحول إلى واقع اجتماعي في ظل الافتقار إلى المؤسسة الثقافية وأعني بها ما يمكن أن يطلق عليه اسم الجمعيات أو النقابات أو الاتحادات الكفيلة بخلق مظلة مؤسساتية قادرة على أن تحول التفكير إلى واقع معاش (تلك هي المسألة الأولى)، أما المسألة الثانية فتتصل بحداثة ما يمكن أن نسميه التيارات الفكرية القابلة على أن تترجم إلى واقع اجتماعي. المجتمع أصبح رهيناً للحضور التاريخي وليس متأثراً بواقع الحركات الفكرية الراهنة والمعاصرة شيء من العزلة وأضاف: ذلك أننا ظللنا وقتاً طويلاً بمنأى عن الاحتكاك الثقافي في العالم وكنا - وأوشك أن أقول - إننا لانزال نؤثر شيئا من العزلة نستمد فيه ثقافتنا من عمقها التاريخي، وليس من باطنها الذي يحياه العالم من حولنا، من هنا أصبح الواقع الاجتماعي رهيناً للحضور التاريخي، وليس متأثرا بواقع الحركات الفكرية الراهنة والمعاصرة، التاريخ ظل هو المهيمن وهو الذي منح المجتمع هويته من ناحية، وأقام بينه وبين المتغيرات الثقافية حاجزاً من ناحية أخرى، أما المسألة الثالثة فتتصل بما يمكن أن نسميه الريبة تجاه أي محركات أو متغيرات ثقافية تلك الريبة التي تجعل القيمين على مجتمعنا ينظرون بتوجس وبحذر تجاه أي تفكير مختلف عما هو سائد ومألوف، ومن ثم تحريك المجتمع لكي يكون مقاوماً لأي تغير يحدث فيه وتلك هي الأسباب الثلاثة المسؤولة عن عدم تحول الحراك الفكري إلى واقع اجتماعي. أما عن تأثير القرار المؤسسي في ترابط الخطابين الفكري والمجتمعي ليسيرا جنباً إلى جنب فقد قال "السريحي": لكي يكون كذلك ينبغي أن يكون الخطاب المؤسسي خطاباً محايداً لا يميل على طرف من دون طرف، وخطاباً أميناً في تهيئة الظروف المناسبة والملائمة والمتساوية لكل طرف من الأطراف، إذاً عليه أن يكون عادلاً وأميناً ومحايداً عندها يمكن له أن يخلق المجتمع من خلال ما يتداوله مثقفو المجتمع من حوارات. القيم المجتمعية ويقول أستاذ الخدمة الاجتماعية في جامعة الملك سعود "د. سعود ضحيان الضحيان": إن مجتمعنا من المجتمعات التي تتصف بالتنوع الكبير بين فئاته، ونتيجة لذلك التنوع ترتبط فئاته بقيم اجتماعية مختلفة بل ومتعارضة في كثير من الأحيان، فما هو مقبول لدى فئة ما غير مقبول في فئة أخرى، كما أن التراث الثقافي يختلف من منطقة إلى أخرى، وبالتالي فإن تلك المحددات الثقافية مع محدداتها الاجتماعية تطغى على باقي المحددات الدينية، وكل فئة ترجع ما يصل بها إلى نمطها القيمي، فإن توافق معها قبلته، وإن لم تقبله ترفضه، من دون الدخول في قضايا جدلية، أو حتى مجرد نقاش تلك القيم والأفكار. «مجتمعنا» يتطور مادياً ويتباطأ في المستوى الفكري! وأضاف: فمثلاً يمثل النمط الزواجي أحد أهم جوانب الخلاف بين فئات المجتمع، وعلى الرغم أن كثير من الأنماط غير مقبولة شرعاً والتي تتعارض مع تعاليم الدين إلا أنها ما زالت قوية، فالقيم المجتمعية الفرعية تطغى على القيم الدينية، وفي نفس الوقت فإن آلية التغير الاجتماعي القائم على الحراك الثقافي، يظهر بعض التغيرات في قيم المجتمع، إلا أن ذلك يحدث بصورة بطيئة جداً ويلقى مقاومة كبيرة من رجالات الفئات ذات الثقافات الفرعية. التطور المادي وأشار "د. الضحيان" أن ذلك الحراك يستند في مجمله على رؤى قد تبدو منطقية إلا أنها لم تتماشى مع المجتمع بكافة فئاته، غير أنّ التطور المادي أسهم في تحريك ذلك الحراك، فالوضع الاقتصادي الذي أسهم في تغيير كثير من تلك الأفكار الجامدة المتعلقة بالتعليم العالي والنوعي منه (دخول المرأة لتخصصات كالقانون والهندسة.. الخ) ودخول المرأة سوق العمل، وبدايتها كمشارك في تأمين مصادر الحياة جعلها تمتلك نسبة من القرار الذي لم تكن تمارسه أو ربما لم تكن تعرفه في الأصل. د. سعيد السريحي وقال ولعل من أكثر الأمور جدلاً تتمثل في استحياء المساهمون في الحراك الثقافي في مناقشة قضايا حساسة لأنهم يخشون ردود الفعل القوية التي تأتي من قادة الثقافات الفرعية، فما زالت كتب الأنساب من أكثر الكتب تداولاً، ولعل بقاء كثير من العصبيات ومنها عصبية القبيلة، ما زالت تسطر على تفكير ليس الكبار بل حتى الشباب، ففقدان الانتماء للوطن جعل الكثير يبحث على ذلك من خلال الانتماء للقبيلة، بل إنّ عقلية القبيلة ما زالت هي المسيطر على تفكير كثير ممن يحسبون على النخبة والذين يحتلون مناصب كبيرة فكون مدير مؤسسة تعليمية يقوم بتوزيع الهبات أو الفرص على منسوبي إدارته هو في الواقع ينطلق من سياسة شيخ القبيلة، إنّ الحراك مستمر وسوف ينطلق بصورة أكبر عندما يدعمه قيادات تلك الفئات، هنا فقط يمكننا القول إنّ الحراك الاجتماعي سوف يسهم في تغيير تلك القيم التي تتعارض مع القيم الحقيقة للمجتمع وهي القيم الدينية. اجتهادات مبعثرة ويرى "د. علي الرباعي" أن الحراك الفكري لم يتشكل كقوة مؤثرة وضاغطة لا على مجتمع ولا على صانع القرار، كل ما نلمسه اجتهادات فردية مبعثرة هنا وهناك ولذا لم نلحظ ذلك الأثر الايجابي ولا ملامح تحول حضاري نحو المدنية والتقدم، ويبقى الأمل كبيراً في تحقق تطلعات المفكرين بتبني الجهات المؤسسية لمشاريعهم وتحويلها إلى برامج عمل. د. سعود الضحيان وفي حديثه عن الخلل الموجود ومدى ارتباطه لكون الحراك نخبوياً أو لأنه لا يتماشى مع قضايا المجتمع اليومية فيشير "د. الرباعي" إلى أننا في مجتمع عانى ويعاني من اختناقات عدة، ولذا ما يعنينا جميعاً نخباً ومجتمعاً أن نتنفس وننفس عن أنفسنا بالممكن والمتاح، والمختنق يبحث عن متعة وطرفة وترفيه، ولكن هناك من لا يؤمنون بحرية الرأي ولا العدالة ولا الشراكة الوطنية ومن هنا ضاعت مشاريع المفكرين فلم تبلغ قناعات صاحب القرار ولم تتماس مع همّ المواطن البسيط، وحينها فقد المفكر فرصة التأثير وظل في منزلة بين المنزلتين. النخب الفكرية وأكد رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية والقانونية "د. أنور ماجد عشقي" أن الحراك الفكري لا يصدر بقرار أو أوامر رسمية أو إدارية، لكنه تفاعل بين النخب الفكرية فيترجم إلى حلول للقضايا التي تمس المجتمع، لكن الحوار الوطني أسهم في الانطلاقة الفكرية، فإذا علمنا أنّ الفكرة عبارة عن طاقة إذا حبسناها آذتنا وآلمتنا وقد تؤدي بنا إلى الهوس والجنون، أدركنا وقتها أن الحرية هي الكفيلة بتفعيل الحراك الثقافي للتأثير في الحالة الاجتماعية لكن العقل والقيم هي الوجه الحقيقي للفكر. أما عن السبب في عدم انعكاس الحراك الفكري على الحالة الاجتماعية والثقافية فيقول: "إن المثقف الحقيقي لا يزال عملة نادرة في مجتمعاتنا؛ لأن المثقف هو من أرّقته المعرفة فاستيقظ وجدانه لقضايا أمته، وحرية الفكر التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين المتزامنة مع الحراك الوطني هي التي أشعلت النقد البناء في الأحداث التي ألمت بمدينة جدة عندما جرفت السيول بعض الأحياء، فعندما تخاذلت الرقابة الذاتية الممثلة في القطاع الحكومي تحولت النخب إلى الرقابة الحقيقية وأخذت تحاسب الذين تسببو في هذه الأحداث، إما بسبب الإهمال أو بسبب استغلال السلطة. د. علي الرباعي وأوضح أنّ أحداث جدة تعد مرحلة تحول في الحراك الفكري، الذي أخذ يقوم بدوره الحقيقي، ولهذا برز دور النخب الفكرية والثقافية في توجيه النقد ضد الفساد، والجهل، والتخلف، فإذا كان المفكر هو من يطرح الحلول فإن المثقف هو من يُفَعِّلها في المجتمع، فالندوات الثقافية هي التي تضع اللقاء بين المفكر والمثقف، وهي البيئة التي تتفاعل فيها المعرفة خصوصاً إذا كان ما يطرح فيها يمس المجتمع وبناءه. قضايا ما زالت مؤجلة ويقول الناقد "شتيوي الغيثي" إنّ القضايا التي تدور في الساحة الثقافية والفكرية تكاد تكون هي ذاتها قبل أكثر من قرن على طرحها، والقضايا المطروحة في الساحة كانت هي ذاتها التي طرحت قبل أكثر من قرن من الزمان، وما زالت لم تؤثر في البنى الاجتماعية والثقافية، هذا إذا لم نقل أن المجتمعات صارت أكثر تراجعاً إذا مازاد فرد التشاؤم لدينا قليلاً، فالحراك الثقافي لم يستطع حتى الآن أن يتغلل في الفكر المجتمعي إذا صح الوصف، ذلك أن كثير من مشاريع النهضة سواء في الداخل أو التي على مستوى العالم لعربي برمته بقيت تتأرجح في مكانها التي طرحت فيه أول ماطرحت، وكثير من القضايا ما زالت مؤجلة إلى وقت غير مسمى. د. أنور عشقي وأشار بأنّ المثقف السعودي مازال يعيد ذات القضايا التي أثارها الرواد كالعقاد وشحاتة وغيرهم، ولم يستطع المثقف السعودي أن يعكس ثقافته على حاضره ومجتمعه لعدة أسباب منها: أنّ المثقف السعودي ليس جاداً في تطوير ذاته قبل تطوير مجتمعه، كما أن منهم لا يحملون هَمّاً ثقافياً مؤصلاً، فما زالت الرؤى مرتبكة عند الغالبية، فالمشاريع الثقافية والفكرية السعودية مشاريع ضعيفة، حتى الآن ولا تخلق رؤية متكاملة حتى تؤثر في البنية الاجتماعية وقوى التغيير لتعيد ترتيب البيت من جديد، أما النخبوية فهي من صفة الفكر طول تاريخه، لكن كان لابد أن تتحول أفكار النخبة إلى مشاريع حياتية وهذا ما لم يحصل حتى الآن، هناك نخبة مفكرة ومنظرة، وهناك من يتلقف تلك الأفكار ليصنع منها مشروعاً نهضوياً تنبني عليه كثير من التغييرات، والحالتين تكاد تكونا مفقودتين في وضعنا العربي فلا مفكرين يحملون رؤى تطويرية مؤصلة ولا جماهير متفاعلة. تحت طور التجريب وأضاف "الغيثي" هناك رؤيتين في تطور التاريخ: وهي الرؤية المثالية التي تنطلق من تأثير الأفكار في الصراع المجتمعي، وهناك الرؤية المادية التي تؤمن بأن تطور التاريخ هو في صراع الطبقات الاجتماعية المتبدلة مع التطورات المادية، والمجتمعات برأيي تتأثر بالرؤيتن لأنهما يؤثران في بعضهما، ومن هنا لابد في المدى التي تؤثر فيه الأفكار في المجال المادي أو العكس أي مدى تأثير المادة في الفكر، مجتمعاتنا العربية تريد التطور على المستوى المادي وترفض التطور على المستوى الفكري رغم ارتباطهما معاً من وجهة نظري الخاصة، مشيراً أن تاريخ الأفكار في السعودية لا يتجاوز الثمانين عاماً على أحسن الأحوال والتغيرات الاجتماعية دائماً ما تكون بطيئة، فأوروبا مثلاً لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أكثر من ثلاثمائة عام من الصراع الفكري والاجتماعي، ومع ذلك نجد من يقول إن "الحداثة مشروع لم يكتمل" كما هو رأي هابرماس. شتيوي الغيثي وأوضح أنّ الممانعة الاجتماعية هي الشكل الطبيعي في المجتمعات كلها، ولم يوجد مجتمع لم تحصل لديه ممانعة اجتماعية لكن يبقى التغلب على هذه الممانعة في إقناع الجماهير التي هي المشروع الأقوى الذي يواجهه المثقف العربي أوالسعودي، لكن الاقتناع الجماهيري لن يكون سهلاً كما يتوقعه بعضهم، إنما سنجد أننا أمام مشروع ضخم نتائجه ليست على المدى القريب إطلاقاً، مضيفاً أنّ الممانعة الاجتماعية لم تكن ممانعة اعتباطية، إنما جاءت بعد العديد من التحولات الكبيرة في المنطقة بعد فشل العديد من مشاريع النهضة فلم تعد الجماهير تثق الآن بسهولة في أي مشروع نهضوي لا ترى نتائجه متحققة على أرض الواقع المادي المباشر، وهذا ما يهم المواطنين كافتهم، ولكن يبدو أن هذه المشاريع ماتزال تحت طور التجريب لعدم ثقة أصحابها بها فضلاً عن ثقة غيرهم.