حصر مثقفون التغيير الذي يرجونه في إلغاء القيود الذهنية على فكر المثقف والثقافة، معتبرين أن الثقافة لا تنمو بشكل خلاق إلا في وجود مناخ تنطلق من خلاله الروح الإبداعية، وتلغي القيود الذهنية على العقل المفكر. وقالوا ل«الحياة» إن المثقف المحلي ما زال يدافع عن قضايا تم تجاوزها في المسار الإنساني العالمي والواجب عليه السعي لإيجاد تغيير حقيقي ينطلق من مؤسسات مدنية تحميه وتكفل له الحرية التي هي - على حد تعبيرهم - شرط مهم وأساسي من شروط التغيير. اعتبر الدكتور خالد الدخيل أن هناك تغييراً يتطلب قراراً رسمياً من جهات تشريعية، وأن هناك تغييراً للفكر وغرس قيم ونظريات داخل ثقافة المجتمع، «وهذا يأخذ وقتاً طويلاً، ولا يتضح أثره إلا على المدى البعيد، ولكن الهيمنة الدينية لا تزال بقرار رسمي، وعلى المثقف أن يسير في الطريق لتخفيف من هذه الهيمنة، سواء نجح أم لم ينجح، المهم أن يسعى لذلك». ويرى الدخيل أن هناك عوائق تحول دون المثقف وتربك قدرته على التغيير «منها عدم وجود مناخ صحي للفكر وحرية الرأي، وهذا يستلزم إصلاحات دستورية تؤمّن حماية حق المواطن في حرية التعبير عن نفسه، طبعاً ضمن حدود وضوابط قانونية. كذلك من العوائق تداخل الديني مع العلمي، سواء في التعليم أم في الثقافة السائدة. وأيضاً هناك عائق يخص المثقف الذي هو فرد عار لا ينتمي إلى مؤسسة، وهذا مرده في المقام الأول إلى غياب المجتمع المدني بكل أطيافه. فتأثير الفرد محدود، في مقابل تأثير المؤسسة الثقافية أو المهنية أو السياسية، بينما نجد نجاح الخطاب الديني لأنه يعتمد على تنظيمات وتحزبات، وعلى موروث، وهو ما سمح له أن يكون أكثر فعالية في المجتمع». وعد أن من ضمن هذه العوائق عائق الإعلام وسقوطه في خانة لعبة الخطاب الديني، «فأحياناً وربما من حيث لا يقصد لا يخدم الإعلام الثقافة الحديثة أو التعزيز من حضورها في المشهد الاجتماعي. بدلاً من ذلك يسقط في لعبة الخطاب الديني، وذلك انطلاقاً من اعتقاد سائد بأن التغيير يجب أن ينبثق من داخل التيار الديني. وهذا واضح من عادة إبراز طروحات وتصريحات عادية في محتواها، وإعطائها مساحة عريضة أحياناً على الصفحات الأولى، لا لشيء إلا لأنها لبعض المنتسبين إلى هذا التيار». ويضيف أستاذ مساعد علم الاجتماع السياسي في جامعة الملك سعود «وفي الوقت نفسه ينأى هذا الإعلام بنفسه عن إعطاء المساحة والأهمية ذاتها لآراء وطروحات أكثر نضجاً، وأبعد استنارة بسبب أنها لكتاب أو مثقفين ليسوا محسوبين على الخطاب الديني». لافتاً إلى أنه يخاف أن الإعلام يخشى من تهمة الترويج لليبراليين والعلمانيين «وإذا صح ذلك يكون الإعلام قد وقع في فخ لعبة الفكر الديني». سلبية وصمت وجبن وقال الدكتور محمد الأحمري: «إن دور المثقف هو تعليم المجتمع وحمايته ونقد أو توجيه سلطته، وإن لم تتوافر له المعرفة والشجاعة، سواء حجبت عنه المعرفة أم حرم عليه ممارسة النقد فلن يستطيع أن يكون له دور، وسيفتح الباب واسعاً لمثقف من مجتمع آخر أو ثقافة أخرى ليقتحم المجتمع الفارغ ويعلم ويوجه وينقد». وعد الأحمري أن الفراغ الفكري يصنع منطقة جذب هائلة يدعو وجودها فطرياً وأن يملأها من لديه عطاء. وأضاف: «أثر المثقف يعتمد على قدرته على أن ينشر أفكاراً مؤثرة في لحظة حاجة إليها أو استجابة اجتماعية، لأن مجرد أن تكون قارئاً أو مستهلكاً لوسائل المعرفة كالكتب والتلفزيون والانترنت لا يعني أن تكون قادراً على صناعة التأثير، بل كم رأينا مجتمعات لها رصيد فكري، ولكنه رصيد سلبي أو ميت يفتقد الحيوية، أو صامت أو غير جذاب لأسباب من الأفكار نفسها أو بسبب الإعراض عنها أو بسبب قدرة أفكار مضادة أن تخمدها». وذكر أن ما ينقص المثقف هو الفكرة التي توقد عقله وضميره، «وقد تنقصه المبادرة لأنه تعود تمرين نفسه على السلبية والصمت والجبن، أو بسبب وجود سلطة معادية للثقافة، تقمع رأيه وتصادر حريته، وقديماً كانت السلطة تستطيع - إلى حد بعيد - قهر المجتمع وإغلاقه على ما عنده أيا كان الذي عنده وتستطيع أن تختزل الموجود أيضاً وتنشر رذيلة الجهل والأمية والعبودية، أما في زمننا هذا فإن قدرة السلطة على مواجهة الثقافة ضعفت ولم تنته». وعن التغيير الذي ينشده المثقف، قال الأحمري: «هو تغيير تمليه ثقافته وقناعته المقارنة بمثال في الذاكرة أو مثال في الواقع، فالعقل يجذبه النموذج أكثر من صحة أو خطأ الفكرة، والنموذج حاسم في الإقناع، وتتوارى الإمكانات العقلية تجاه بهرجة النموذج، والتغيير الذي يريده المثقف هو غالباً إرادة الخير لنفسه ولمجتمعه، ويعاني كبقية الناس من الدوافع الأنانية لمعنى الخير عنده، والاستجابة للمصلحة العامة التي قد تضره هو، ولكنه متبين لخيرها العام، ولهذا يقع الامتحان الشديد للمثقف بين ذاته وشهواتها والحق ومقتضياته». الدفاع عن قضايا الإنسان الكاتبة أميرة كشغري: «ترى أنه يجب الاعتراف بأن العلاقة بين المثقف والسلطة في معظم المجتمعات - إن لم يكن كلها - معقدة بحكم أن المثقف الحقيقي هو صاحب فكر نقدي مستقل، ولديه رؤية إنسانية يسعى من خلالها لإحداث تغيير في الوضع الراهن، بينما تسعى السلطة أياً كان مصدرها إلى تعزيز الوضع الراهن وتثبيته، «فالمثقف الحقيقي قدره أن يكون مدافعاً عن قضايا الإنسان ويعمل بشكل عقلاني لدفع المجتمع لبلورة موقف منها، لذا فالمثقف لا يمكن إلا أن يكون عامل تغيير وليس ترساً في آلة السلطة». وأضافت: «هنا علينا الاعتراف بأن التغيير هو دور المثقف وهمه الدائم، لكن هل سيكون المثقف قادراً على إحداث ذلك التغيير فهذا أمر تحكمه طبيعة السلطة ومقدار دعمها أو قمعها للمثقف والسلطة وإن لم تتحكم في المثقف ذاته بطريقة مباشرة إلا أنها تستطيع الحد من تأثيره بطريقة غير مباشرة». وحددت كشغري قدرة المثقف على التغيير بعوامل عدة، «أولاً الجانب السلطوي، أي درجة القمع والعنف وانحسار تقبل الاختلاف من السلطة، ثانياً الجانب الاقتصادي، أي مقدار تحكم السلطة المركزية في المصادر الاقتصادية وبالتالي مقدار سيطرتها على الاقتصاد. كلما ازداد حجم سيطرة السلطة على الاقتصاد كلما تمكنت من تحييد المثقف بفاعلية إما باستمالته ليدور في رحاها أو بالتضييق عليه اقتصادياً واجتماعياً حتى يصل إلى مرحلة يتخلى فيها عن طموحاته ويستسلم طوعياً أو ينتقل إلى المنفى إجبارياً، وثالثاً الجانب الاجتماعي، أي طبيعة مرحلة الحراك الاجتماعي وعمق التباين بين الواقع المجتمعي وبين تطلعات المثقف وقبول المجتمع للتغيير». وأشارت إلى أن هناك قلة من المثقفين يناضلون من أجل أفكارهم ولا يتخلون عنها حتى لو كلفهم فقدان مصدر رزقهم أو حتى حياتهم. وذكرت أن المثقف المحلي ما زال يدافع عن قضايا تم في المسار الإنساني العالمي تجاوزها «مثل الدفاع عن حرية الرأي والتعبير أو حق ممارسة الحقوق الأساسية للإنسان، والمثقف في هذا السياق يجد نفسه مشدوداً لأبجديات السجال الفكري والاجتماعي بشكل يعوق بحق التطور المعرفي ذاته للمثقف». واعتبرت كشغري التغيير الذي ينشده المثقف «يتمثل في إلغاء القيود الذهنية على فكره، فالثقافة لا تنمو بشكل خلاق إلا في وجود مناخ من الحرية التي تطلق الروح الإبداعية، وتلغي القيود الذهنية على العقل المفكر». حالة تهميش واستصعب الكاتب شتيوي الغيثي قدرة المثقف على التغيير، «لأنه في الحالتين كان المثقف مشاركاً في تغيير المجمعات في الوقت كما كان يقع عليه التغيير من المجتمعات، وهذا راجع إلى المساحة التي يتمتع فيها المثقف في المجتمع، فالمجتمعات المتقدمة كان المثقف في الصف الأول من التغيير وما زال يحاول، في حين ما زال يقبع في حالة التهميش في المجتمعات المتأخرة، على رغم التقدم الايجابي في هذه الجانب، ولا سيما مع ظهور هامش من الحرية الفكرية والصحافية، لكن ما زال المثقف حتى الآن- برأيي - يحتاج إلى فترة طويلة في القدرة على التأثير ومن ثم التغيير». وعد الغيثي أن ما ينقصه هو «عدم القيام بدوره هو ثقة المجتمع والمسؤول وعدم الثقة هذه ناتجة من تضارب المصالح بين ما يطرحه المثقف والمسؤول أو الخطاب العام المهيمن على المجتمع». وعدّ أن التغيير الذي يريده المثقف هو «الانتقال من الحال التقليدية في المجتمع إلى الحال التقدمية بحيث تكون المؤثرة هي قيم المدنية المعاصرة وليست قيم التقليدي التي تنتمي إلى عصر متأخر عن هذه العصر، ولعل الفردانية وحقوق الإنسان هما السمتان الأوضح في التغيير على مستوى المجتمعات والدول». شر مستصير ووصف مدير جمعية الثقافة والفنون بالدمام عيد الناصر الثقافة بأنها هي عصب التغيير وقاعدته الأولى، «وبما أن الثقافة بالضرورة تحتاج إلى مثقف لينقلها ويسوقها إلى الجماهير، فهذا يعني أن المثقف قادر على التغيير، ولكن علينا الانتباه إلى أن التغيير لا يعني بالضرورة تغييراً إيجابياً ولمصلحة المجتمع، فهناك ثقافة تدعو إلى التخلف والخروج من التاريخ وهي رائجة ولها أعلامها وأبطالها». وعد توافر الحرية بكل أشكالها شرطاً للمشاريع الثقافية المختلفة «أن تتنافس في ما بينها وتعرضها على الجماهير صاحبة الحق في تقويم هذه الثقافة وتبني ما تعتقد بأنه ينفعها وتترك ما لا ينفعها، ولكن في حال غياب الحرية الحقيقية يتغلب المثقف المتحالف مع السياسي لترويج ثقافة معينة تكتسح عقل المجتمع وتؤثر فيه. ومن هنا فالنتيجة الطبيعية لغياب الثقافات المختلفة، بل تعرضها للتشويه والتحريف بشكل متعمد ومدروس وتحويلها إلى شر مستطير في نظر المجتمع، تسيطر ثقافة واحدة على عقل الناس». وعد المثقف الحق هو الذي يمثل ضميره ووطنه وأمته، «بمعنى أنه المثقف الذي يقف في خندق المطالبة بتوفير الحرية بكل صيغها السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، لأن الحرية هي الأساس التي تفتح بعدها كل أبواب التغيير، ومن دونها تتصلب شرايين المجتمع وتتيبس مفاصله ويعجز عن الحركة».