مهما كانت الصعوبات ، ينبغي أن نتمسك بالحوار والتفاهم ،ليس من أجل التغطية على الصعوبات والإساءات ،وإنما من أجل خلق المناخات الإيجابية لمعالجة كل الصعوبات والإساءات لعل من الأخطاء الشائعة ، والتي تساهم في تحويل لحظات الحوار ، إلى بيئة للسجال وصناعة المزيد من التشنج النفسي والاجتماعي ، هي حينما لا نخلق مسافة بين الأفكار والقناعات، والعقائد والأشخاص الذين يحملون هذه العناوين .. فالدمج بين الأفكار والأشخاص ، هو الذي يقود إلى تحويل مواقع الحوار سواء كانت ندوة أو مؤتمرا أو حلقة نقاشية أو لقاء مفتوحا ، إلى حلبة للسجال والتطاحن والتمترس .. فتضيف هذه السجالات عناوين إضافية للتباعد والتباغض والتشنج .. والسبب في ذلك هو حضور الذوات بكل شحناتها وأمزجتها وميولها ، مما يحول دون النقاش الهادئ والحوار العلمي – الموضوعي .. لهذا فإننا نجد أن الكثير من مؤتمرات الحوار ولقاءات التفاهم ، لا يفضي إلى نتائج عملية حقيقية .. والسبب في ذلك يعود في تقديرنا، إضافة إلى أسباب أخرى، إلى حالة المزج بين الأشخاص والأفكار .. فتتحول الخلافات الفكرية إلى خلافات بين الأشخاص والمجتمعات .. مما يعمق الفجوة بين المختلفين ، وتزداد من جراء السجال والتشاحن عناوين الخلاف والنزاع والتباين .. لهذا فإننا نعتقد بأهمية أن يتحلى جميع الأطراف بآداب الحوار وتقاليده الحضارية ، حتى لا تتحول هذه القيمة الدينية والأخلاقية والحضارية ، من قيمة تساهم في رفع التباغض بين المختلفين ، إلى ساحة للاحتراب والتراشق والاتهام وسوء الظن .. فالحوار كقيمة ووسيلة لتنظيم الاختلافات والتباينات بين الأفراد والجماعات ، لا يمكن أن يؤتي ثماره الإيجابية المرجوة ، بدون الالتزام بقواعد الحوار وأخلاقياته وآدابه .. ومن أهم هذه القواعد والأخلاقيات ، خلقُ المسافة الضرورية بين الذوات والأفكار ، بين الأشخاص والعقائد .. وحينما نمارس نقدنا للأفكار والعقائد ، فإننا لا نمارس عصبيتنا تجاه الأشخاص الذين يحملون هذه الأفكار والعقائد .. إن هذه المسافة هي التي تساهم في خلق حوارات موضوعية ومثمرة على مختلف الصعد والمستويات .. ويوضح الفقيه محمد حسين فضل الله رؤيته وتجربته في الحوار والانفتاح على الآخر المختلف والمغاير بقوله : إن الحوار يلزم المؤمنين به الانفتاح على الآخرين حتى لو كانوا على باطل أو على مسافة بعيدة عن طريق الحقيقة ..لأن الواجب الأخلاقي والمسؤولية الحوارية تقتضي من هؤلاء التفكير في نقل هذا الحق – الذي يدعون امتلاكه والتمسك به – إلى الآخرين بالوسائل الحضارية السلمية التي يمكن أن يقتنع الآخرون بها ، وهذا ما يستتبع بالضرورة أن تكون لهم إرادة تفهم الآخر وأن يعطى الفرصة للحديث عن وجهة نظره .. وفي موقع آخر من مؤلفاته وأبحاثه يقول : هب أنك تملك الحق في نظرك ولكن لماذا لا تفكر أن الآخر قد يملك وجهة نظر أخرى مختلفة قد تضيء لك وجهة نظرك فتوسعها وقد تقلب لك وجهة نظرك؟ وكم من المفكرين من كانوا يؤمنون ببعض الأفكار التي بنوا كل كيانهم الفكري عليها ولكنهم اكتشفوا من خلال حوار أو تأمل آخر الخطأ فعادوا عما كانوا عليه ! وأما أولئك الذين يختبئون في داخل ذواتهم ليرفضوا الآخر من خلال عقدة الذات ، هؤلاء لا يملكون قوة الدخول مع الآخر في حوار ، هؤلاء يشعرون بالضعف في الحجة التي تدعم فكرهم ، عندما تكون قوياً في فكرك وحجتك فإنك تستطيع أن تقول للعالم تعالوا إلي هاتوا برهانكم ، وهذا برهاننا .. فالحوار بكل مستوياته ، ليس ساحة للمزايدات الديماغوجية، أو إطلاق الشعارات البراقة واليافطات المواربة ، وإنما هو ساحة لاكتشاف الحقيقة من خلال الإنصات المتبادل ، والسعي لفهم الآخر بشكل مباشر بعيداً عن المسبقات والأحكام الجاهزة .. فالحوار ليس مناسبة للانغلاق على الذات وقناعاتها ، وكأنها هي المعادل الموضوعي للحق والحقيقة ، وإنما هو مناسبة للانفتاح على الإنسان كله بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو عرقيته أو قوميته .. فإذا كان من حقي أن أختلف مع الآخر ، فلا شك أن من حق الآخر أن يختلف معي .. لهذا فإننا نجد المنهج القرآني في الحوار ، قائماً على مساواة الآخر بالذات ، والانطلاق من المساحات المشتركة .. والالتزام بمقتضيات الحوار الموضوعي والمناقبيات الأخلاقية .. إذ يقول تعالى (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا). ( الإسراء 53 ) فالحوار ليس فرصة للتنابز بالألقاب أو إطلاق الأقوال البذيئة ، بل علينا جميعا ومن مختلف مواقعنا أن نقول الكلام الحسن ، ووجود كلمات بذيئة هنا أو سيئة هناك ، ينبغي أن لا يقودنا إلى الوقوع في فخ الجدال بالسوء والشر .. ويقول تبارك وتعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). ( سورة النحل ، الآية 125 ) .. فالمطلوب دائما بين الأفرقاء وفق الرؤية القرآنية ، ليس توسيع التباينات ، وإنما البحث عن مواقع اللقاء والالتقاء لتأكيدها والانطلاق منها .. قال تعالى ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) .. (سورة آل عمران الآية 64 ) .. ولا يمكن الوصول إلى هذا ، بدون الأسلوب الحسن والالتزام بفضائل الأخلاق .. إذ يقول تبارك وتعالى (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).. ( سورة فصلت ، الآية 34 ) .. فالمطلوب من جميع الأفرقاء ، ليس تعميق الكراهية والعداوة بين المختلفين ، وإنما العمل على صنع الحسنات في مختلف المجالات حتى تتمكن هذه الحسنات بحقائقها المجتمعية ، من طرد السيئات بتعبيراتها المختلفة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية .. إننا بحاجة لأنْ نتحاور مع بعضنا البعض ، مهما كانت الأزمات والمشكلات .. فلا خيار أمامنا إلا الحوار الذي ينفتح على كل القضايا بروح المعرفة والتفاهم ، ووجود إساءة هنا أو هناك ، ينبغي أن لا يدفعنا إلى التعميم أو تضييع المكاسب أو اتهام الجميع بجريرة البعض. فالمزايدات الإعلامية لا تحمي حقيقة ، ولا تصون وطنا واستقرارا .. لهذا فإننا مهما كانت الصعوبات ، ينبغي أن نتمسك بالحوار والتفاهم ،ليس من أجل التغطية على الصعوبات والإساءات ،وإنما من أجل خلق المناخات الإيجابية لمعالجة كل الصعوبات والإساءات .. فالنار لا تُطفأ بنار ، ومن يحاول ذلك ، فإنه يزيد الأوضاع تأزما على مختلف المستويات . وكل من يطالب بالتماثل في الرأي والقناعة ، كشرط للحوار ، هو في حقيقة الأمر ضد مبدأ الحوار والقبول بحقيقة التنوع والتعدد .. فالحوار لا يتم بين متماثلين ، وإنما هو بين مختلفين .. وعملية الحوار في جوهرها لا تستهدف إنهاء الاختلافات بل تنظيمها وإدارتها بعقلية حضارية – استيعابية .. فلتتسع قلوبنا وعقولنا للحوار وآدابه وأخلاقه ، ولنتمسك بمشروع التعايش والحوار مهما كانت الصعوبات ..