أبو عبادة البحتري (206-286) من أشهر شعراء العرب، وكان في بدايته تلميذاً لأبي تمام، واسمه الوليد بن عبيدالله الطائي، ولد في منبج بقرب حلب، ومن المفارقات أنه كان بخيلاً مقتراً حريصاً على المال ذهب جل شعره في المديح، ويندر في (طي) البخلاء ولكن البحتري من هؤلاء النادرين، كان المعري معجباً به رغم أنه ألف كتاباً عنه بعنوان «عبث الوليد» وينسب له القول المشهور «أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري» وهو قول فيه نظر كما يقول الأزهريون.. وقد وصف البحتري معركة وقعت له مع ذئب شرس في ليل بهيم، وكان وصفه في غاية البلاغة: وليل كأن الصبح في أخرياته حشاشة نصل ضم افرنده غمد (1) تسربلته والذئب وسنان هاجع بعين ابن ليل ماله بالكرى عهد (2) اثير القطا الكدري عن جثماته وتألفني فيه الثعالب والربد (3) واطلس ملء العين يحمل زوره واضلاعه من جانبيه شوى نهد (4) له ذنب مثل الرشاء يجره ومتن كمتن القوس أعوج منأد (5) طواه الطوى حتى استمر مريره فما فيه الا العظم والروح والجلد يقضقض عصلاً في أسرتها الردى كقضقضة المقرور ارعده البرد (6) سما لي وبي من شدة الجوع ما به ببيداء لم تحسس بها عيشة رغد (7) كلانا بها ذئب يحدث نفسه بصاحبه، والجد يتعسه الجد (8) عوى ثم أقعى وارتجزت فهجته فأقبل البرق يتبعه الرعد (9) فأوجزته خرقاء تحسب ريشها على كوكب ينقض والليل مسود (10) فما ازداد الا جرأة وصرامة وايقنت ان الأمر منه هو الجد فاتبعتها اخرى فأضللت نصلها بحيث يكون اللب والرعب والحقد (11) فخر وقد أوردته منهل الردى على ظمأ لو أنه عذب الورد (12) وقمت فجمعت الحصى واشتويته عليه، وللرمضاء من تحته وقد ونلت خسيساً منه ثم تركته واقلعت عنه وهو منعفر فرد (13) (ديوان البحتري 308/1 دار الكتاب العربي) هل حصلت تلك المعركة فعلاً بين الشاعر والذئب أم كانت من نسج الخيال؟ ارجح الخيار الثاني خاصة ان الشاعر قالها غضباً من قومه مفاخراً بنفسه ثم انه كان ثرياً جداً بحيث لا يضطر ان يأكل من خسيس ذئب، ولا يهمنا احصلت المعركة أم لا.. المهم أننا ظفرنا بأبيات غاية في البلاغة ودقة التصوير. (1) شبه بداية طلعة الصبح في بياضه بطرف سيف خارج من غمده وبقيته في الظلام (2) كأن الشاعر لبس الليل ثوباً (3) يسير وحيداً في ليل صحراوي ساكن مخيف حتى ان وقع خطواته يثير القطا من مراقده (جثماته) والكدري نسبة من الكدرة بين الغبرة والسواد، صفة للقطا، ولشجاعة الشاعر يصف وحشة الليل في الفلاة حيث لا أليف سوى الثعالب والأفاعي (الربد). (4) اطلس: صفة للذئب الذي في لونه غبرة تميل للسواد، ملء العين: ضخم، شوى: أطراف، تنهد: مرتفع، رأى ذئباً ضخماً مخيفاً قوائمه طويلة وعضلات صدره بارزة. (5) المتن الظهر منأد منحن توثباً. (6) يقضقض: يصر بأسنانه، عصلاً في أسرتها الردى أسنان حادة في أطرافها الموت الزؤام. (7) لاح لي هذا الذئب الجائع ببيداء لا طعام فيها، كلاهما جائعان: الشاعر والذئب. (8) الذئب يهم بأكل الشاعر والعكس والحظ هو الفيصل. (9) أقعى: استعد للوثوب، ارتجز: انشد شعراً يشجع نفسه فهاج الذئب الهائج أصلاً. (10) أوجرته: طعنته، خرقاء: نبلة طائشة لم تصب الذئب فزاد هياجه، ويصف ريش نبلته (سهمه) كأنه كوكب ينقض في سواد الليل. (11) ضرب الذئب بسهم آخر فأصاب قلبه (كنى عن القلب بقوله: بحيث يكون اللب والرعد والحقد). (12) منهل الردى: مورد الموت. (13) ونلت خسيساً: ذاق لحم الذئب بعد ان شواه فإذا به كريه الطعم.