هل نكفّ عن ترديد دهشتنا من حضور الوجاهة في مواقع لا تحتمل الوجاهة بالوراثة، وأن نتروى في خلع صفات المواهب على سلالة بلا مواهب؟ «فزامر الحي لا يطرب» و «ابن الوز غير عوام» وإن شئتم «فالنار لا تورث إلا الرماد». تساءلتُ غير موقن بأنني سأصل لإجابة تريحني: ما هي المؤثرات الأكبر في تشكيل وصناعة شخصية الفرد؟ وكيف تظهر تلك الصفات التي تتحرك بين التوثب أو الانكفاء أو المراوحة بين النسخ المتشابهة، أو تلك التي تختفي خلف ستار قد يشف وقد يرخي أسداله الثقيلة عن شخصية أخرى وملامح أخرى؟ لو أن زوجين فائقيْ الذكاء والتوثب وبارعين في رسم ملامح حياتهما، أرادا أن ينجبا طفلا هل بمقدورهما أن يصنعا سماته الشخصية كما يحبان ويحلمان، هل الأبناء امتداد ذكي للآباء؟ هل هذه حقيقة يمكن الركون إليها أم أنها من بعض أوهام المجتمع؟ أم أن النماذج المقروءة كافية للشهادة على القدرة على صناعة مواهب من مواهب، وأخلاق من أخلاق وفضائل من فضائل؟ هل حقيقة أن «ابن الوز عوام» كما هو شائع ومتداول؟ وهل العوم صفة مكتسبة بالتدريب والمران أم استعداد فطري في مخلوق يجب أن يعوم ليكسب الحياة، كما هي الحال في بعض مخلوقات الله، وهل العقارب الصغيرة تتربى على اللدغ والإيذاء من أمهاتها أم أنها لو تركت بلا مران ستكون عقارب قادرة على ممارسة اللدغ والأذى بالفطرة؟ تتوزع المواهب والقدرات والاستعدادات بين البشر بلا قدرة على ضبطها أو التحكم بها. إنها منحة الخالق، وليست من أوهام المعتقدين أن بمقدورهم أن يصنعوا المواهب من اللامواهب، والقدرات الفائقة من الاستعدادات الباهتة، والشعور بالمسؤولية من بلادة الشعور، والاحتراق بحثا عن الذات في وسط بيئة الخمول والتراخي. يحاول الآباء المدركون ألا يميزوا بين أبنائهم، إلا أنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن هناك أبناء مفضلين لأنهم يحملون صفات يحبونها ويقدرونها. يتوزع الأبناء الذين خلقوا في رحم واحدة وبين مؤثرات تربوية وتعليمية واجتماعية لم تختلف أو تتغير، إلا أن كل مولود يحمل سماته الخاصة، بين الخمول والتأجج، بين الحركة والتوقف، بين الذكاء والأقل ذكاء، بين الامتثال والتمرد، بين الشعور المبكر بالمسؤولية أو انطفاء ذلك الشعور وتراخيه، بين رغبات واستعدادات وميول وأمزجة ربما أسهمت في تألق بعضهم وربما أدخلت والدين حالمين في معادلة التأهيل وإعادة التأهيل الشاقة. إنها سمات تؤثر فيها جينات واستعدادات فطرية ولدت مع الطفل، خريطة جينية لا يمكن تجاوز تأثيراتها في تشكيل ملامح شخصية كما هي قدرية ملامحه الخارجية. هذه البصمة هل تكون المدخل لمحاولة فهم تلك الفروقات والتمايزات؟ مع أهمية الأخذ بالاعتبار التأثير الكبير للتربية والمجتمع والتعليم، إلا أن الأخيرة لن يكون بمقدورها وحدها أن تجعل ابن «الوز» عواماً، ولن تقوى على صناعة المواهب والقدرات دون استعداد وقدرات. بل إن هذا الدور لا يتجاوز في كثير من الأحيان مخرجات التعليم كما نعرفه، والتدريب والتأهيل والمران في تحسين قدرات أو تجاوز سلبيات. وهو مفيد لأبناء «الوز» للحصول على مؤهلات البقاء عبر دعم «الوز» وحضوره وتأثيره، ألا انه ليس بالضرورة استعادة لتاريخ «الوز» ونبوغه ومهارته. وكما أن ابن «الوز» غير عوام بالضرورة . والعوم هنا لا علاقة له بالتكوين المادي، ولا بظلال عادات وتقاليد وثقافة تتوارث، بل هو ذا صلة بالذات تألقاً وانطفاءً، صعودا وهبوطا، نجاحا وذبولا ... فكذلك فإن «زامر الحي لا يطرب». حيث تتحرك قضية الاعتراف بالمواهب من خارج أسوار الوطن أكثر من انبثاقها من بين جدرانه وثقوبه. توقفت عند مقطع لجلال أمين في كتابه الأخير «رحيق العمر» ينسجم مع تلك الرؤية الخاصة تجاه تكوين الأبناء وانشغالاتهم وتعدد شخصياتهم يقول « لم أتوقع أن يقرأ أولادي الثلاثة كتابي (ماذا علمتني الحياة) لما علمتني إياه الحياة من أن «زمار الحي لا يطرب»، وهي عبارة سمعتها من أبي أكثر من مرة، ورأيت دليلا على صحتها في مواقف أبناء أدباء وكتاب كثيرين من أعمال آبائهم. ولهذا اكتفيت بأن أعطيت كلًا من أولادي نسخة، كتبت عليها إهداء، دون أن أسأل بعد هذا عما إذا كانوا قرأوه أو قرأوا أجزاء منه. وقد كانت مفاجأة سارة لي أن أعلم أن اثنين منهم قرآ الكتاب، وإن كان واضحا لي أن الثلاثة، سواء من قرأه منهم أو من لم يقرأه ، لم يعلقوا عليه أهمية تقارب ما علقته أنا عليه. وقد أكد هذا لي ما كنت قد توصلت إليه من قبل، من أن من الخطأ الشديد اعتبار أولادنا استمرارا لنا، ومن ثم فلا يمكن أن نأمل أن يعتبروا قصة حياتنا جزءاً من قصة حياتهم». لا يشكو جلال أمين من انصراف أبنائه عن قراءته، إلا أنه يقرر بعد هذا العمر حقيقة ليست خفاء. المعنى ليس فقط في أن «زامر الحي لا يطرب»، ولكن أيضا «ابن الوز غير عوام». لأنه لو وجد هؤلاء الأبناء في تلك الكتب ما يقع في نفوسهم موقع التأثير الذي وقع في عقل جلال أمين من كتب والده أحمد أمين لربما كان الأمر مختلفا. ولم يكن أيضا جميع أبناء أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وضحى الإسلام، ذوي صلة واهتمامات ثقافية أو أدبية أو يملكون القدرة على الكتابة سوى ما كان من حسين أمين وجلال أمين. وهما بين أبناء بلغ عددهم الثمانية. زامر الحي لا يطرب، ليس فقط في دائرة الأسرة الصغيرة، ولكن على مستوى مجتمع ووطن أيضا. فتشوا عن زمار الحي في وطنكم، وقولوا لي كم منهم أطرب أهل الحي بينما أهل الحي يتخطفون زمارا من خارج الحدود، فما زالوا يطربون للزُمار من كل جنس ولون إلا زامر حيهم !!. أعود «لأبناء الوز» فأقول لا تغتروا بهم كثيرا. فكثير منهم يحملون هالات آبائهم وحضور إمكاناتهم ومواقعهم، ولكن ليس بالضرورة أن يحملوا مواهبهم وقدراتهم. تعددت قدرات «الوز»، فهم رجال أعمال، وصناع ثروات، ورجال مسؤوليات، وحضور ثقافي وأدبي وعلمي .. يخلفون أبناء إذا رأيتهم حسبتهم «وزا « عواماً كآبائهم، ولكنهم في الحقيقة يلبسون أردية «الوز»، ويركبون مصاعد «الوز»، وينعمون بكل حضور «الوز»، إلا أنهم ليسوا بالضرورة «وزا» عواماً كما كان حضور الآباء المؤسسين أو أسلافهم الراحلين. إنهم يعيشون على تراث «الوز» الذي كان يوما. ويتحلقون حول موائد الأسماء بلا سجل الأسماء الحقيقي الذي يعطي مشروعية العوم للقادرين عليه. ومن شواهد الزمن أن الوجاهة اليوم وراثة لا صناعة. والحضور أسماء متوارثة وليس تاريخا شخصيا حافلا، وعناوين براقة ولكن بلا قدرة العوم في خضم التحدي الشاق. وقد ترى ملامح النجابة والحيوية والانطلاق بين أبناء لا علاقة لآبائهم بالعوم، ولم يكونوا من ذوي الحضور أو الهالات، وربما لو تغير زمنهم أو مكان ولادتهم ونشأتهم لكانوا في مواقع العوم، ولأصبحوا «وزا» له شأن وأي شأن. وقد تخفت تلك المواهب المبكرة وتذوي وتضمحل، وقد تساق في طرق تجعل المواهب عبئا ثقيلا على صاحبها، وربما على مجتمعها...ولكن هي الحياة تنبثق فيها جينات المواهب من سلالة الأحياء / الميتين، حتى لنردد بلا تحفظ في لحظة انبهار أو دهشة «يخرج الحي من الميت» . فكم من ميت أنجب شعلة تتحرك بلا انقطاع وتتوثب بلا تراخٍ، لتصنع عالمها من لا عالم، وتعلن عن ذاتها في بيئة الخمول والتثاؤب، فالتحدي قرين الاستجابة وإلا فالضعف والموت المبكر. هل نكفّ عن ترديد دهشتنا من حضور الوجاهة في مواقع لا تحتمل الوجاهة بالوراثة، وأن نتروى في خلع صفات المواهب على سلالة بلا مواهب؟ «فزامر الحي لا يطرب» و «ابن الوز غير عوام» وإن شئتم «فالنار لا تورث إلا الرماد».