احتجت إلى كل ما أملكه من إيمان وإلى كل ما بيدي من تصور لرحمة الله ومحبته، ولولا هذا لتفتت نفسي وأنا استقبل خبر وداع الحبيب الغالي محمد البنكي وقد جاءني الهاتف الأول من معجب العدواني ثم توالت الهواتف من البحرين، ضاعت لحظتها صور كل الدنيا من أمامي، كنت في الفندق وكان بيني وبين طائرة العودة ساعات، هي تلك الساعات التي مرت وكأني لم أكن في الدنيا، راحت نفسي تسير بجسدي وغاب إحساسي بالأشياء، نسيت حقيبتي مرات ونسيت أوراقي وبطاقاتي على مكاتب الاستقبال في الفندق وأنا أسجل المغادرة وفي مكاتب المطار وفي كل مرة كان يلحق بي شخص متبرعاً بوضع حقيبتي في يدي وبتسليمي أوراقي، ولست أذكر كيف كنت أرد عليهم ولا ماذا كنت أقول لهم. تغيرت الدنيا وتساوى كل شيء... وهكذا ضاع مني أجمل أحلامي وأبهى صور المستقبل النقدي والثقافي أمامي... راح محمد البنكي. يسعفني إيمان بالله يظهر لحظة الحاجة إليه، وأتذكر محمد المؤمن بإيمانه العميق وبوجهه البشوش وبروحه المعطاء، كان مؤمناً في زمن ساد فيه رأي بين الناس كل الناس أن الحداثة كفر، وكنت أتجرع مرارة مثل هذا التصور وأحس بالوحشة حينما أنظر إلى حداثتي وإيماني وأجدهما متجاورين في نفسي بلا نفور ولا قلق، ولكنني اتوتر نفسياً كلما رأيت أقواما من الصحبة الحداثيين ورأيت فيهم حسا بالقطيعة مع الايمان مع تصور قطعي أيضاً بأن شرط الحداثة هو النفي المطلق والشك القاطع، ويزداد التوتر مع شيوع هذا التصور حتى لقد صار واحداً من أشد لحظات التقاطع بيني وبين من تكشف له أنني رجل مؤمن، ويأتي التعجب نحوي، بل لقد صار من الديدن وصفي بالتناقض أو عدم الصدق في حداثتي، وهي صورة تشيع بشدة وتزيد من توتير الرؤية والتعجب من عدم تفهم ما أراه من عبقريات التصور وذلك حينما تتحد المتناقضات في عقل ما ويجد هذا العقل خيطاًرفيعاً يؤسس لوحدة ذهنية لا تهشمها الحدود الايديولوجية القسرية، وكنت - وما زلت - أرى أن الفكر الكبير هو الذي يستطيع التوفيق بين ما يبدو متناقضاً عند الآخرين وأن الفكر يسمو كلما استطاع كسر الحدود الافتراضية بين المقولات، وما المقولات بعد كل هذا سوى منتوج بشري عقلي، مما يعني ان العقل البشري يستطيع أن يصنع خطه الخاص حتى ولو قال غيره غير ما يقول وحتى لو رأوا غير ما يرى... إنه يرى غير ما يرون ولذا يتميز عنهم وعليهم. تلك صورة ألجأ إليها كلما حاصرتني أيديولوجيات المثقفين العرب وجعلوا من إيماني المطمئن عقدة في تصورهم لي. لهذا أنست نفسي بأناس وجدت فيهم ما أجده في نفسي، وكان محمد الشاب البحريني الحداثي المتفتح وعياً وروحاً وحرية والمشتعل ذكاء. هو محمد أحمد البنكي الذي تعرفت عليه قبل عشرين سنة في جامعة البحرين، وتفاجأت به مطلعاً وفاهماً وعميقاً يسأل ويفكر ويدقق، وكان حينها في العشرينات من عمره ولما يزل طالباً في الجامعة، ولقد كنت أراه وأسمعه واستقبل محاورته مندهشاً، حتى لقد كدت أكذب نفسي ولعلي تلمست حواسي مرة ومرات لكي اطمئن على أنني في يقظة ولست في حلم منام أو حلم يقظة، ومرت السنون، عشرون سنة، كان كل يوم فيها يجدد لي أحلامي ويجدد لي وعودي بمحمد، محمد الذي ما خيب لي ظناً قط وما سقطت بين يديه نظرة قط وما تعثرت فيه كلماتي قط. كنت أبدأ بالقول ولا أضطر لاكماله لأن محمداً يلتقط الفكرة من رأسي وقبل أن تصل إلى لساني، وكنت أقول الكلمة والرأي وأطرح النظرية لأجدها تتكامل على لسانه وفي عباراته. كنت أحدثه عن آخر ما يستجد من نظريات وكان يفهمها ويلتقطها وكأنها خرجت من مطبخ بيته، ولا تمر أيام إلا ويكون قد تحصل على نسخة من الكتاب المذكور في حديثنا مهما كان مكان الناشر في أمريكا أو استراليا في زمن لم تكن خدمات الإنترنت متوفرة فيه ولكن مهارة محمد في طلب العلم أسبق من التكنولوجيا، ثم إن فهمه وتفهمه للنظريات كان على درجة تثير العجب بسرعته وبعمقه. كل هذا المطمح العلمي مضافاً إليه الجد والعمق وصدق الالتزام واحترام الوقت والتحلي بقيم العمل، ومن فوق ذلك كله كان ايمانه العميق والصادق، ذلك الايمان الذي جمعني به في الحوار وفي التجاور في العبادة. كنت مرة في البحرين وامتدت إقامتي حتى حانت صلاة الجمعة وكنت أنوي الصلاة جمعاً وقصراً، كما هو شأن المسافر، ولكنني أحسست وقت الضحى ومع خلوتي مع نفسي برغبة في أن أذهب إلى الجامع وأصلي صلاة الجمعة مع الناس، ولذا هاتفت محمداً على منزله وقلت له: إنني أرغب في أن أصلي الجمعة وطلبت منه أن يمر علي ليأخذني إلى أحد الجوامع، فسألني إن كنت أفضل خطيباً معيناً، واستطرد يشرح لي خيارات مساجد البحرين، وهي خيارات تمتد ما بين خطيب صوفي وآخر سلفي أو جامع جعفري أو جامع يطيل الصلاة وآخر يختصر، فقلت له: يا محمد سأصلي حيث تصلي أنت، وذهبت معه إلى ما اختاره، وحينما دخلنا للمسجد وتقدمنا بين الصفوف أشار بيده نحو رجل في وسط الصفوف كان يصلي تحية المسجد وقال لي: انظر... ذاك منذر عياشي... نظرت إلى عيني محمد وهو يقول ذلك وكدت أرد عليه بدمعة أشكره فيها على لحظة أهداها لي لأرى أن فكرتي عن الايمان بوصفه قيمة عميقة لا تناقضها أي فكرة أخرى، وأحسست بثلاثتنا ونحن في رحاب المحبة وكانت تلك اللحظة هي أجمل ما مر بي في ذلك الأسبوع، وهو الأسبوع الذي أعلنت فيه عن مشروعي في النقد الثقافي، قبل صدور كتابي ببضعة أشهر عام 1999م. تمر الحياة رخية ووفية وواعدة مع محمد حتى جاء يوم وهاتفني فيه وأبلغني أن داء خبيثاً تسلل إلى أحشائه، وأنه بدأ يطرق أبواب العلاج، وكان لابد لي من لقاء معه، وصار اللقاء وقد ذهبت إليه محملاً بثقل نفسي باهظ ومرعب، ولكني ما إن رأيت وجهه وهو البشوش الباسم حتى خف عني همي وبدأت أتكلم معه بروح متفائلة وبدأت نفسي تستجيب للكلام وتتجاوب مع الظرف، وزاد من توازني وجود السيدة الكريمة أم جاسم، زوجة محمد، حيث عمرت الجلسة بهدوئها وبإيمانها وبقوة عزيمتها ومع روحانيتها العالية كانت محبتها ووفاؤها لمحمد وهذا ما جعلني أندمج بسرعة في هذا الجو العائلي والايماني مع غطاء المحبة وصدق المواجهة، واستمرت الحال أربع سنوات، كان محمد يمر مع مرضه بمراحل نشعر مع بعضها بانفراج وفرح ونشعر مع بعضها الآخر بمعاندة من المرض، ولكن فيما بين هذا وذاك كان محمد يتردد من البحرين إلى الرياض وإلى ألمانيا في رحلات علاج، دامجاً ذلك كله في رحلات عمل وعلم ومارس حياته بأصدق وأدق وأضبط ما يكون حتى لقد كان أنشط من الأصحاء وظل معطاء في فكره وفي وقته، ولم يتوقف قط عن التخطيط للعمل الثقافي، وعن استقطاب المثقفين والباحثين حتى وهو في أشد لحظات الألم وفي جلسات الانتظار في مكاتب الأطباء أو عند مختبرات الفحص كان يستخدم هاتفه ليدير العمل في مكاتبه في البحرين ويعطي توجيهاته للموظفين ويرسم برامج العمل وخططه مقدماً تضحياته للناس وللمفكرين والباحثين وكأنه لم يكن في حالة مرض. ظل محمد هكذا على مدى أربع سنوات من المرض حتى لتظن أنه ليس بمريض، ولا يعاني من وجع في أحشائه، وظل وجهه باسماً وظلت روحه معطاءة، ولذا لم استطع تصور الخبر وهو يأتيني وأنا معلق بين أبوظبيوالرياض، ظللت في حس لم أعد فيه أعرف نفسي وهل أنا مع الناس أم لا، انظر من حوالي وأرى الدنيا لا شيء... تساوت في ناظري الأشياء، ومازلت أتكلم مع الناس وأسمعهم ومازلت أرى الأشياء وأمر بها، ولكنني لم أعد أشعر ولم أعد أحس... هذه الدنيا ليست هي ما كنت أعرف... راح محمد البنكي وراحت معه أجمل أحلامي برجل رأيت فيه أكثر من نفسي وكنت أرى فيه مستقبل النقد الثقافي ومستقبل الثقافة، وكنت أرى فيه الايمان والصدق والعزيمة... وكنت أرى أنه أجمل الوعود وأجمل الجلسات وأصدق الأمنيات... ولكن... أين أنا من رحمة الله....؟؟ إن الله أرحم منا بمحمد وهو الرجل المؤمن الذي ما هده مرض ولا قنطت له نفس قط ولا يئس ولا خاف... وهو إذ يذهب إلى ربه فلأنه أجمل من كل ما في دنيانا وأرقى من كل وعودنا وأطهر من كل كلماتنا، إنه مثل مطر يهطل من السماء صافياً ونقياً وطاهراً ولما التفت للأرض لاحظ تلوثها وتشوهها فقرر العودة إلى طهر السماء... عاد محمد إلى الطهارة حيث هي انتماؤه وحقيقته، وعاد النقاء إلى مصدره ومنبعه... عاد إلى عليائه التي تليق بصفائه وبشاشة وجهه وروحه، أخذته الرحمة وضمته إليها... هي رحمة أكبر من رحمتنا وهي حضن أنقى من أحضاننا. أيها الغالي الحبيب عليك رحمة الله... لقد تركت لي يا محمد كنزاً من الايمان أعانني على تحمل الخبر وصبرني وحمل قدمي على الأرض، ولكن ومع كل هذا الرضا في نفسي بقدر الله وتقديره إلا أنني يا محمد لم أعد أرى الأرض كما يراها الناس ولم أعد أدير عيني في الناس كما كنت من قبل، وأي أرض هذه التي لا أراك فيها، أيها الحبيب كم كنت قريباً وحبيباً وغالياً ولا أقول إنني خسرت فأنت مكسب راسخ لا نخسره أبداً... إيمانك ورضاك وبشاشة وجهك الكريم هي سلاحي وهي عزائي وأنت هناك عند ربك.. حبك الأكبر وقوتنا الأعلى.