القنفذة مدينة ساحلية تبعد عن جدة ثلاثمائة وخمسين كيلا جنوبا، وهي من أقدم وأشهر الموانئ الواقعة على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، شهدت القنفذة حركة تجارية كبيرة بين المدن التجارية على الشاطئين بعامة، وبين مدن الساحل الشرقي بخاصة، وذلك لوقوع القنفذة متوسطة بينها، ولكون القنفذة منطقة آهلة بالسكان، وذات انتاج زراعي وفير، ومركز اتصال وإمداد لمدن السراة، إذ تبعد عن الباحة ما لا يزيد عن المائة كيلو متر فإنها تكتسب أهمية كبرى بين موانئ المملكة الغربية، كما شهدت القنفذة رسو أساطيل العثمانيين الحربية لنقل الجنود وموظفي الدولة ومواجهة الحركات الوطنية في المنطقة. أما القوز فقد كانت قرية هامة بإنتاجها الزراعي وتجمع القبائل بها ومن حولها، حيث طبيعة حياتهم الزراعية والرعوية ونفورهم من حياة المدن، لا سيما وأن الحركة التجارية في القنفذة كان يديرها تجار من حضرموت والهند وغيرهم، الذين مارسوا من المهن ما لم يستهو أبناء المنطقة المشتغلين بالرعى والزراعة والحروب والإعداد لها لصد الغزاة، أما اليوم وقد تغيرت نواميس الحياة، ودحرت الفتن في ظلال الأمن والاستقرار الذي تعيشه بلادنا فقد عاد أبناء البلاد لممارسة دورهم في تنميتها، وأصبح الذين يقومون بهذا الدور من قبلهم نسيجاً وطنياً واحداً. تبعد القوز عن القنفذه عشرين ميلاً، متربعة على ربوة تحف بها الأودية العميقة والفياض الخصبة، مما أكسبها وما حولها تربة خصبة وماء وفيراً، حيث تصب فيها مياه الأمطار القادمة من السراة. قدمتُ إلى المنطقة صحبة نخبة من المثقفين وبدعوة، واستضافة من الأستاذ الدكتور عوض القوزي، وكان في استقبالنا صفوة من أبناء القوز وأعيانها، هذه البلدة الوادعة التي كنت أظنها تلالاً من القوز أو الرمال التي تعيقها أن تسير في ركب النهضة التي تشهدها بلادنا، فإذا بها مدينة تختار من تقاليد المعاصرة ما يعزز كونها مدينة تتطلع لمستقبل زاهر، وتتمسك بما حسن وطاب من قيم الماضي، تتجلى في أهلها رحابة الصدور، وطيب المعشر، وكرم الضيافة، وسماحة الخلق، وما ذاك إلا لعراقة حضارية ومد ثقافي تأصلت وتعمقت جذورهما عبر مسار زمني بعيد، واتصال ثقافي مبكر بأمم الأرض خلع مزاياه على أرض خصبة لا تنبت إلا طيبا. صحبنا مضيفونا في جولات بين معالم المنطقة ذات المنتجعات الجميلة، والرحاب الدافئة التي تريح البدن والنظر والنفس، وإلى الشواطئ الآسرة، والأسواق الأسبوعية التي يتدفق منها عبق الماضي وروح الحياة الفاتنة، وإلى مجالسهم الحافلة بالثقافة وأطباقها الشهية، بسردياتهم الشعرية، ومروياتهم الطريفة، وبأطعمتهم التقليدية والحديثة المعبرة عن السخاء والكرم والمحبة. كانت المجالس التي حضرناها والجولات التي قمنا بها تعطر آذاننا بأبيات من الشعر الشعبي في المنطقة، ابداع يتميز بمعطيات الثقافة التي تخلع على الفنون نفحات من الذوق والفكر وحسن التذوق، وكان من أبرز ذلك فن الطرق وفن العسيري أو العسير وفن الزلفة، فنون شعرية تحتفظ بكثير من المواقف الثقافية والذكريات الشيقة التي تجلب المتعة للجلاس وتبرز وجها ثقافياً معبراً عن مستوى ثقافي رفيع. وسأتناول فن الطرق في تقديم مستخلص من كتاب الدكتور حمزة الشريف "الشعر الشعبي في القنفذة"، ومما أفاض به مضيفونا، وما استنتجته من ذلك. والطرق من أبرز الفنون الشعرية والغنائية في المنطقة، يتبارى فيه المبدعون بحثاً عن التعبير الأدبي الراقي, ورسم لوحات لا تصدر إلا عن إبداع واعٍ، ولصعوبة الإبداع في هذا الفن كانت المطارحة فيه لا يجيدها إلا قليل من الشعراء، بل ندر اليوم الابداع في الطرق لتبدل الأحوال ولحاجة الطرق إلى إغراق في التفكير، ومعرفة معجم من المفردات والرموز، وحذق في الصياغة، ولذهاب الجيل إلى المباشرة في التعبير غاب الطرق الأصيل أو ندر. كان الدكتور عوض القوزى والأستاذ إبراهيم بلغيث من أبرز رواة الطرق وشعرائه في رحلتنا فقد أثر واجولاتنا بمحفوظاتهم وابداعاتهم منه. يقول الدكتور الشريف: "سمي الطَّرق بهذا الاسم بسبب غنائه على الطرق عند ما يسافر البدو والجمالة" وأن "هذا الفن يعتمد على الرد" إذ إنه يبدأ بالقول أو البدع الذي يستدعي الرد والتفسير بالأسلوب نفسه تورية وكناية وجناساً، وأن "هذا الفن من الشعر يعتمد على رموز يعرفها السامعون وخاصة الشعراء المعنيين" (ابن بطني يعرف رطني) أو كما يقال، وأن "الطرق ينتهى بأربعة أبيات ذات قواف مختلفة، وتحتاج إلى رد، والرد أربعة أبيات بنفس القوافي وبمعان مختلفة، وأن الطَّرق حين يغنى لا يصاحبه رقص أو طبول". وما فهمته عن الطَّرق أنه نوع من الغناء خلع على هذا الشعر للتغنى به، ومع مرور الصحبة ارتبط كل منهما بالآخر، فالطرق لون من الألحان، فيقال: هذا طرق تهامي وهذا يماني، وهذا شامي وهذا جبلي، حتى إنه ينسب أحياناً لأصحابه، فهذا طرق طلال مداح وهذا طرق محمد عبده، لتميز كل مغن بطريقة مناسبة له ولا مكاناته يتميز بها عن الآخرين، وربطه بالطُّرق والجمالة ليس حصراً، وللناس في فنونهم فنون، فالطرق من الطريقة. وأما التشكيل من أربعة أبيات فربما عنى المؤلف بذلك أربعة الأجزاء أو ما يسمى بالأركان والأغصان في مناطق أخرى لفنون أخرى، وربما لتحرر الطرق من التزام قافية موحدة للصدر والعجز أو لكل منهما. وبالعودة للنماذج التي أوردها المؤلف نجد أن الطرق أكثر ما يتكون من أربعة أجزاء، ولكنه يجيء أحياناً من خمسة أو ثلاثة مثل: قول (بدع): مهرةٍ طفِّى مع الزرب روحي الزير يضرب والخلايق مرجّين تلبس نزك خيطه من الهند مشغول هو مشتري بالفين عدة ولا فات يحرض فتاته على القفز من السور لحضور الاحتفال، فالناس يرجون حضورها وينتظرونه، وهي تلبس أجود وارق الملابس المستوردة من الهند غالية الثمن. ويبدو أن المقطع الأخير ربما كان: هو مشترى بألفين وعدة ولو فات، أي عدة آلاف. أما الرد فهو: كلٍّ رقد وانا معزر بروحي أهلي وصدقاني عليّه مرجّين الود في قلبي غدا وانت مشغول ماني معذر في حبيبي ولو فات نام الناس ومعاناته منعت عنه النوم (حالة تعزير)، وسهر أهله وأصدقاؤه يرجون الله التخفيف عنه، كل ذلك من الحب الذي شغل عنه الحبيب بحياته، ومهما ذاب لوعة فإنه لن يتخلى عن حبه ولو مات كمداً، أو ولو بعدت دياره كما يقول المؤلف: هذا طرق رباعي أما الخماسي فمنه: قول (بدع): عذب ما ابغى كاس شاهي وبن هات ما تعلم اني من شدا تاع بنِّي الشادوي ما كل وادي بقل به بن اليمن ياجى مخلط بالجفال واما انت يا بن شدا بن صافي إنه يفضل البن على الشاي وبخاصة البن المجلوب من جبل شدا لأنه لا يشبهه بنّ في جودته، وهذا البن لا ينبت أيضاً بغير هذا الجبل وأوديته، أما غيره من البن فهو مخلوط بالقشر والجفل أي أنه غير نقي مثل بن شدا. وبالطبع فالشاعر لا يعني البن ذاته وإنما يشبه من يحب بهذا البن معشوق علية القوم، تمييزاً لمن يحب عن سائر المعشوقات. أما الرد فهو خماسي أيضاً: أبكى بكا جاير بحرقة وبانهات على الذي من فرقته تاعبنِّ ذاك الذي ماذا بقلبي بقلبه جاهل ويتباهى بزينة بلج فال تعال نقسم ودنا بالنصافِ بكاء جائر فيه من الحرقة والنشيج والحرارة ما لا يطاق لما يعتلج في الصدر من لوعة وتعب بسبب فراق من يحب، من يقاسمه اللوعة والإسرار، صغير السن، بلج محياه كانبلاج الصباح يتباهى به بين أترابه. أما الطرق الثلاثي فمنه: قول (بدع): عيني ترى المتحاوشة جال بنّو في جالة المخضار بنوا مساهي ياما معاهم من نجادى ومعزا ها هم الذين ينشدون الكلأ والعشب في موسم الربيع يقيمون منازلهم البسيطة هكذا [بنو] وربما الصحة بنوا، بجوار الخضار، لم يشرح المؤلف جال بنو. وها هي الضان والماعز تحوم حول المساكن، وهي كنايات عن أنواع النساء، محدداً النوع الجيد بالضأن النجدية الفارهة الدعجاء المزدانة بالغرر والأحجال، وأما الرد فهو: يا رب تجلب مولفي جالب النَّو ويبات نون العين بالنوم ساهي ماني معذر في حبيبي وما اعزا يا جالب السحاب إلى القفر اجلب لي إلفي أو أليفي الذي أحب حتى أنام قرير العين، فلن أسلو حبيبي وما أظنه يسلوني. ثلاثون نموذجا من شعر الطرق انتقاها المؤلف منها خماسيان اثنان وثلاثي واحد وما بقي منها فرباعي. وبهذا يندر أن تزيد أبيات شعر الطرق عن أربعة، لا تمثل صدراً أو عجزاً وإنما هي نصوص شعرية مترابطة، وتدور حول موضوع واحد أكثر ما يكون غزلاً أو تعبيراً عن معاناة، شعر فني تتجلى فيه الكناية والتورية والجناس. ومن النماذج السابقة نجد أن: في البدع: مع الزرب روحي، يقابلها في الرد: معزر بروحي. في البدع: مرجّين أي يأملون وينتظرون الرجاء، يقابلها في الرد: مرجّين أي ملتفين يدعون رجاء الشفاء. في البدع: مشغول أي من الاشغال والصنعة، يقابلها في الرد: مشغول أي منشغل عني. في البدع: ولا فات وولو فات: آلاف يقابلها في الرد: ولوفات ولو فات. في البدع: وبن هات أي هات بنا قهوة، يقابلها في الرد: بانهات بلهفة وارتفاع في النبض والتلهف. في البدع: ابتاع بنى ابتاع وجلب، يقابلها في الرد: تاعبن أتعبنى. في البدع: بقل به أي زرع به، يقابلها في الرد: بقلبه. في البدع بالجفال أو بالأجفال أي الشوائب، يقابلها في الرد: بلج فال أي محياه كانبلاج الصباح. في البدع: بن صافي نقى، يقابلها في الرد بالنصاف أي بالنصف والمناصفة والانصاف. في البدع: جال بنو، يقابلها في الرد: جالب النو. في البدع: مساهى أي منازل بسيطة، يقابلها في الرد: بالنوم ساهي. في البدع: معزا أي الماعز يقابلها في الرد: وما اعزا أي ما أظن. ولا يغيب عن ذهن القارئ ما ضمن من جناس وكناية وتورية تبعد المستهدف بالقول لأغراض وأهداف اجتماعية وذاتية. كما أشير إلى ما يواجه الناقد والمحلل والشارح من مشاكل تتصل بكتابة النصوص الشعبية وروايتها، أو ما يتصل بالأخطاء الطباعية والاجتهاد في التفسير والشرح، وفق ما ورد في الكتاب، فمع حرصي الشديد على توخي الحذر في معالجة هذا النصوص إلا أنني قد أقع في خطأ يشذ بالمعالجة فمعذرة، لا سيما وأن هذا الشعر من طبيعته الإيجاز والتكثيف، ولأن معظمه يحلق في سماء المتعة والغزل والعواطف وما يصاحب من معناه فإن الشاعر يحصن مقولاته بكنايات وتوريات ويجملها بالجناس والتشبيهات الرقيقة لرسم لوحات مفعمة بالعذوبة والجمال والتساؤل، تغليف من الإلغاز لا يكشفه غير المبدعين في فن هذا الشعر. لا أجزم أننى وفقت في عرض وتحليل وشرح أبيات شعر الطرق التي استشهدت بها على جمال الطرق والتعبير به عن مشاعر الشعراء. فكما أشرت من قبل بأن كتابة الشعر الشعبي تواجهها مشكلة النقل والكتابة، فمعذرة. أما عن الجولة في ربوع القنفذة فإني أدعو المستثمرين في الزراعة والسياحة وتربية وصيد الأسماك أن يتوجهوا لهذه المنطقة التي تفتح صدرها للاستثمار والانتاج، وتغرد أجنحتها للتواصل بالبلاد المجاورة داخلا وخارجاً. وأدعو لإنشاء مطار يقربها من الداخل، وجامعة أو كليات متخصصة تخفف من أوزار الازدحام في المدن الأخرى. وأسأل الباحثين عن ولع حرف القاف بأسماء الأماكن هناك: القنفذة، القوز، دوقة، قنونا، القاع، الشاقة وغير ذلك. وختاماً الشكر والامتنان للدكتور عوض القوزي وأهل القوز فقد أتاحوا لنا فرصة ثمينة تعرفنا من خلالها على منطقة جميلة ورائعة روعة أهلها ومستقبلها الزاهر.