ذُكر في أرجح الروايات أن هذا التراث الفني الذي يسمى "الأبو،أذيه" ومنه ما يسمى بالزهيريات في دولة الكويت، يعود بجذوره التاريخية إلى نهاية القرن الهجري الثاني، وتناقل المؤرخون أن مدينة واسط الواقعة بين الكوفة والبصرة بالعراق هي مولد هذا اللون الذي يسمى في التراث العربي "المواليا" الذي يتميز بسهولة التناول وله بحر واحد من "بحر البسيط" وتشير المصادر التاريخية والأدبية إلى أن الأربعة من الأبيات في هذا الفن تسمى "صوتاً" وقد تغنى به الفلاحين وأرباب المهن في أعمالهم، ورعاة الغنم والإبل، وهو شبيه بصوت البحارة في مواله، وسمي بذلك لأن العمال الذين تغنوا به كانوا يرددون كلمة و"آمواليا" نسبة لأسيادهم، وذهب البعض إلى أن هذا اللون ازدهر في العصر المملوكي وأن قولهم و"آمواليا" في آخر القصيدة أو الصوت هو أسى وحزن وألم في نفوس مبدعيه الذين يرددونه بعد أن جادت به ملكاتهم الشعرية . أما "الأبو- ذيّه"، فهو لون عراقي جميل تعددت أغراضه إلى المديح والهجاء والعتاب والتوجع والحماس والرثاء والغزل والألغاز ..وسمي بذلك كنية بالأذى، فكأنهم قالوا "صاحب الأذى، أو (أبو أذيّه) الشخص الذي تعرض للمواقف الجائرة والحسرات والألم العميق . وسنتناول أمثلة من هذا اللون الذي تعد سراة منطقة الباحة التي كانت تسمى قديماً "الحجاز" هي مسقط رأسه الأول، خصوصاً وأن المؤرخين قد أجمعوا على أن "المواليا"، وكذلك الأبو "ذيّه" في العراق وما يسمى بالزهيريات في الكويت أنها نشأت بمختلف أغراضها وألوانها في القرن الهجري الثاني، إلا أن فن الجناس أو ما يسمى "الشقر" في منطقة الباحة أقدم بكثير من تلك المصادر، حيث وجدت وثائق قديمة منها ما يعود لأكثر من ألف عام تؤكد عدم اختلاف اللهجة العامية وتتضمن بعض المفردات الشعبية القديمة من المفردات التي تكررت كثيراً ووردت في مواضع من لون "الشقر" الجنوبي الذي يتفرع منه (العرضة وطرءق الجبل والمسحباني، واللعب والسامر، والهرموج، والمجالسي). وما يؤكد ذلك ما نقله المؤرخون عن مكتشف علم العروض وبحور الشعر وأوزانه "الخليل بن أحمد الفراهيدي الدوسي" الذي يعود بنسبه التاريخي إلى قبيلة دوس بسراة منطقة الباحة والذي انطلق بفكرته العروضية من سراة زهران الحجازية إلى عُمان، ومنها إلى العراق . ومن دوائر الفراهيدي الخمس المعروفة (دائرة المختلف، والمؤتلف والمشتبه، المجتلب، ودائرة المتفق ) ثم نشأ عنها الشعر البدوي والشعر الذي يلتزم بالوزن فقط دون مراعاة قواعد اللغة الفصحى ودون الالتزام بالقافية مثل : الموشحات والزجل والمواليا ،وغيرها من الفنون . وإذا كانت انطلاقة الأوزان والعروض في القرن الهجري الثاني كما ذكر المؤرخون فكيف تكون نشأة "المواليا" في نفس القرن الذي خرجت فيه العروض والأوزان للفراهيدي، وكُّتّاب التاريخ الأدبي يؤكدون أن فن "المواليا"، والموشحات جاءت بعد الميزان العروضي للفراهيدي، ويؤكد ذلك أقدم كتاب تحدث عن الشعر الشعبي الذي جاء في مقال للدكتور محمد رجب النجار أستاذ الأدب الشعبي في جامعة الكويت مشيراً إلى أن الشاعر "صفي الدين الحلي" الذي توفي عام 750من الهجرة هو صاحب أقدم كتاب يتناول فنون الشعر الشعبي العربي أو ما يسمى "الملحون" !! وإذا كانت الوثائق القديمة في موطن شعر الشقر "الجناس" المؤرخة في عام 142هجرية في بلد مؤسس علم العروض في منطقة الباحة تؤكد أن اللهجة العامية قائمة ومفرداتها المتناولة في شعر الشقر باقية حتى اليوم، فهل هذا يعني أن شعر الشقر هو الأقدم من مراحل الوزن والتقيد بقواعد اللغة الفصحى وأقدم من ظهور علم العروض وبحور الشعر؟! وهنا سنبحر معاً في مقارنة بين "الزهيريات" الكويتية، و"الأبوذية"- أذيةض العراقية، وشعر "الشقر" في منطقة الباحة السعودية، بغية الوصول إلى جذور هذا التاريخ الشعبي الذي يعتمد اعتماداً كلياً على الجناس، وهو ما يسمى بالعامية شعر "الشقر" .. ومن شعر الزهيريات الموال المربع الذي تحدث عنه الدكتور محمد رجب النجار وقال إنه ازدهر في العصر المملوكي، ومنه يقول أحد الشعراء : ألا قم بنا أيها الساقي فناجينا واشرب من القهوه الشقرا فناجينا نحن الذي إن دعا داعِ الفنا جينا وفي الحمى إن تسل عنا فناجينا وهذه الرباعية التي أشار إليها الدكتور عبارة عن "بَدءع" في سياق واحد ولشاعر واحد وتسمى في "المواليا" صوت، ولكنها في منطقة الباحة تعتبر بدعاً ورداً يقوم بها شاعران متقابلان، بحيث تقسم إلى بيتين في البدع وبيتين للرد للشاعر المقابل، وهي قاعدة شعر الشقر في الباحة وكأن شاعراً من شعراء الشقر الجنوبي قام ببدع البيتين الأولين وقال: ألا قم بنا أيها الساقي فناجينا واشرب من القهوه الشقرا فناجينا فيرد عليه الشاعر المقابل شقراً للقوافي قائلاً : نحن الذي إن دعا داعي الفنا جينا وفي الحمى إن تسل عنا فناجينا ومن أمثلة ذلك في منطقة الباحة في لون الشقر القصيدة التالية : البدع: هني لك يا واضع الحِنّا على جلاله وعلى حَنّا والكحل الازرق لا يحٌ نونه الرد: نبدي لزير الحرب لا حنَّا لا يبصر البندق بلا حنَّا ما قرن طال الا يحنّونه ونلاحظ الفرق هنا أن شعر الشقر يتقاسم قوافيه شاعران بين بدع ورد، وينتهي بقفلة بحرف الهاء، وهو الأكثر دقة ووزناً وإيقاعاً موسيقياً، والأسهل تناولاً . ومن الزهيريات الكويتية لون الخماسي والسباعي، وهو الأقرب للشقر قول الشاعر: عيونك السمر تسبينا حواجبها ووجهك البدر مثلك ما حوى جبها والشمس من حسنك توارت حواجبها وكلما اطلب وصالك يا مليك الغيد من دولة الحسن تمنعني حواجبها . والخماسي في طرءق الجبل في الباحة قريب جداً من هذا اللون مثل قول الشاعر الأقدم في المنطقة في قصيدة تجانس فيها قوافي البدع لقوافي الرد بحيث يتم استخدام نفس الكلمات في القوافي بين الرد والبدع مع اختلاف المعنى وهي للشاعر محمد الثوابي الزهراني : البدع: أنحيت لك يالهيل مثل السيل لانحى لا مضى من بير وانحاه في يوم الاحد ناض برقه ليّح النّو له في ارض الله حنمّات وراس ماله جال وادي لوّف انجال الرد : لو جمعوا لي مامع البدوان منحى ما نفعني والشر انحاه تلايمت حتى ضلوعي ليّ حنّو وش يداوي القلب حِنء مات استعتقوا روح المغني لو بفنجال !! أما شعر أبو أذيه أو ما يسمى في العراق "الأبو ذيه" فسنأخذ منه أنموذجاً فقط للمقارنة مع شعر الشقر للمقارنة في الجزء الثاني بمشيئة الله.