لدي قاعدة تقول : ... كلما زادت معارفنا الجغرافية تملكنا شعور بضآلة حجم الكوكب الذي نعيش فوقه !! وهذه الحقيقة أتأكد منها كل صباح حين ألقي نظرة سريعة على مجسم الكرة الأرضية الذي أضعه قرب مكتبي .. وغالبا لا يستغرق الأمر مني أكثر من 80 ثانية لرؤية كافة الدول والقارات فأعود وأسائل نفسي : " وماذا سأفعل حين أنتهي من زيارة الجميع" ! وفي المقابل تصور حال الناس في الماضي (قبل الأقمار الصناعية والكشوفات الجغرافية) حين كانت المعارف محدودة والاعتقاد بأن "أرض الله واسعة" وأننا نعيش على كوكب مسطح لا يملك حدا ولا نهاية .. ويمكن القول إننا أبناء هذا العصر محظوظون بوجود "البوينج" التي أتاحت لنا الوصول لأي منطقة خلال ساعات ، و"الأقمار الصناعية" التي اختصرت صورة الأرض إلى مجرد كرة زرقاء تسبح في الفضاء ! ... ورغم شعورنا المتوالي بضآلة حجم كوكبنا وتحوله إلى مجرد قرية صغيرة إلا أن هذا (بالضبط) ما أجج حلمنا بالدوران حوله والعودة لذات النقطة التي انطلقنا منها ! وبطبيعة الحال أصبح من السهل القيام بهذه المهمة في عصرنا الحالي ( كما يتضح من آخر طبعة من كتاب غينيس للأرقام القياسية الذي يتضمن رحلات كثيرة من هذا النوع تراوحت بين قطع العالم بدراجة وسيارة وقارب الى طائرة وهليكوبتر وبالون) .. وفي حين كانت المتعة وتحطيم الرقم القياسي هي الهدف الأساسي للرحلات الحديثة المعاصرة ؛ كان حب الاستكشاف والتجارة الغرض الأساسي للرحلات القديمة الماضية .. وحسب علمي تعد رحلة "فرديناند ماجلان" أقدم رحلة من هذا النوع في تاريخ البشر ؛ ففي عام 1519 قاد هذا البحار البرتغالي خمس سفن أسبانية للدوران حول العالم في رحلة قصد منها التجارة والاستكشاف. وقد بدأ رحلته غربا باتجاة الأمريكيتين اللتين عبرهما إلى المحيط الهادي عبر المضيق الواقع أسفل الأرجنتين (الذي يعرف اليوم باسمه) .. وكان المحيط الهادي حينها مجهولا للأوربيين وأكثر اتساعا مما توقع ماجلان فعانى بحارته من المجاعة فمات منهم 19 رجلا وأصيب البقية بداء الإسقربوط .. غير أنهم وصلوا بعد عامين إلى جزر غوام فحصلوا على طعام يكفي لمتابعة رحلتهم الى جزر سيبو في الفلبين . وهناك اقنع ملك سيبو باعتناق المسيحية والانضمام لسلطة ملك أسبانيا مقابل مساعدته ضد بقية الممالك المسلمة .. وبالفعل خاض ماجلان في الشهر التالي حربا ضد ملك ماكتان فقتل في المعركة (وتذكر بعض الروايات أن الذي قتله أمير مسلم يدعى لابولابو) .. وبعد وفاته في الفلبين (التي أطلق عليها هذا الاسم تيمنا بملك أسبانيا فيليب الثاني) لم يكن قد تبقى من حملته سوى سفينة واحدة أبحرت نحو جزر التوابل (اندونيسيا) .. ومن أندونيسيا انطلقت السفينة بقيادة "جوان سباستيان" نحو أفريقيا حتى عادت الى أسبانيا بعد ثلاث سنوات ولم يبق على ظهرها سوى 18 رجلا فقط !! ... ورغم وفاة ماجلان في منتصف الطريق إلا أن رحلته كان لها نتائج جغرافية وثقافية وسياسية مازالت واضحة حتى اليوم .. فهو لم يثبت فقط كروية الأرض (وضآلة حجم كوكبنا) بل وفتح الطريق لرحلات استكشافية مماثلة وبدء حقبة تمازج ثقافي واستعماري غير مسبوق (استهله الأسبان بتنصير جزر الملك فيليب) !