لا يزال الشاعر الفرنسي الشهير أرتور رامبو يشغل الناس، كما شغلهم المتنبي العربي قديماً وحديثاً. ولعل الفرق بين الشاعرين هو أن رامبو تجاوز أفقه الفرنسي إلى كل أفق آخر، في حين أن المتنبي على عظمته ورفعة شأنه، ظل في الإطار العربي لا يفارقه إلا نادراً. أما رامبو، فإن الفرنسيين ليسوا وحدهم من يهتم به، بل سواهم أيضاً. فأشعاره تُرجمت إلى لغات حية كثيرة، آخرها العربية على يد الشاعر العراقي كاظم جهاد. والأبحاث حوله يكتبها باحثون من جنسيات مختلفة. فهو فرنسي وعالمي في الوقت نفسه. ولكنه عربي أيضاً بطريقة من الطرق، وهذا ما يستنتجه المرء وهو يقرأ سيرة حياته ومصادر ثقافته، وشعره قبل كل شيء. وهنا وجه الغرابة في ملفه. في هذا الملف أن رامبو بعد أن ترك الشعر، وترك فرنسا، إلى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، كان يعرف العربية منذ سنوات بعيدة. شهادات عديدة تؤكد ذلك منها شهادة الفرد باردي، وهو رب عمل عَمِل عنده رامبو في عدن، الذي يؤكد في مذكراته أن رامبو كان يعطي أوامره بالعربية للعاملين في مشغل البن بعدن، الذي كان يشرف عليه. وفي غير مرة يشير رامبو في رسائله إلى «الكتب العربية»، وإلى القرآن الكريم. ويبدو أن والده الذي خدم في الجيش الفرنسي في الجزائر، كان يعرف العربية جيداً لدرجة أنه وضع كتباً بها. فهل كان رامبو يقصد «بالكتب العربية» في رسائله، الكتب العربية العائدة لأبيه، أم تلك التي وضعها والد رامبو بنفسه؟ ثمة شهادات تاريخية عدة تكشف لنا أن فريدريك رامبو والد رامبو كان يعرف العربية جيداً، ولدرجة نقله القرآن الكريم إلى الفرنسية، وتأليف عدة كتب حول صرف اللغة العربية ونحوها. ونجده في وقت آخر (هرر /7 أكتوبر 1883م) يطلب من السيد هاشيت، صاحب مكتبة هاشيت في باريس، أن يرسل إليه، وفي أسرع وقت ممكن، أفضل ترجمة فرنسية للقرآن الكريم (مصحوبة بالنص العربي إن أمكن) أو بدونه إذا تعذر الأمر، على حد قوله. ويقول رواة سيرته إنه كان يعلّق في رقبته شارة كتب عليها «عبده رامبو»، وأنه في مرضه الأخير الذي أودى حياته (ويرجّح أنه مرض الزهري)، كان يردد عبارة «الله كريم» باللغة العربية. يحيّر رامبو دارسيه حول عدة نقاط في سيرته منها أنه هجر الشعر نهائياً بعد موسم شعري ناجح جداً وهو في حدود السابعة والعشرين من عمره، ويعيش بعد ذلك «ثائراً» تماماً، لا لأنه لم يكتب في المرحلة الثانية في حياته، الشعر، وإنما لأنه عمل في التجارة، وفي أعمال أخرى، متنكراً كل التنكر لمرحلته الأولى وكأنه لم يكن الشاعر الذي يشكل شعره علامة فارقة في الشعر الفرنسي المعاصر. ومن النقاط الأخرى التي تحيّر دارسيه أيضاً تفسير تركه فرنسا وهجرته إلى أفريقيا والشرق. فكيف يمكن لشاعر كبير مثله أن يترك الشعر، وأن يترك فرنسا، ليتحول إلى عامل، أو وكيل ورشة، أو تاجر سلاح وغير ذلك، في مناطق نائية أحياناً لم تكن الطرق فيها سهلة كما هو الحال اليوم؟ أكثر دارسي سيرته يقولون إنه ذهب إلى الشرق باحثاً عن الذهب، لا عن ذهب القصائد، بل عن الذهب نفسه. كانت هناك حقيبة جلدية كبيرة لا تفارقه (ما تزال إلى اليوم في المتحف الذي أُقيم على اسمه في مدينته)، مثل زناره الذي يتحدث عنه في رسائله إلى أسرته: «تصوروا أنني أحمل معي بشكل دائم في زناري ستة عشر ألفاً وبضع مئات من الفرنكات الذهبية تزن ثمانية كيلو، وتسبب لي على الدوام إسهالاً في المعدة». ويبدو أن المناخ السائد في أسرته كان مناخ الاهتمام بالمال وسائر أمور هذه الدنيا. يقول هنري ميلر: «لقد أجهد نفسه في التخلص من مداره العائلي، لكنه ظل عالقاً فيه. كان يمكنه التخلص من أمور كثيرة، ما عدا أثر والدته». أما الآن بوري فإن له تفسيره الخاص لترك رامبو للشعر وهجرته إلى الشرق. فهو يقول إن رامبو تخلى عن الشعر حين انتهى إلى الاعتقاد بأن للمحرك البخاري حظوظاً أكبر في تغيير الواقع.. وفي هذه الفترة الثانية من حياته تتكشف لنا عنده رغبة في التلاؤم والتكيف، بناء أسرة، الشرقي الاجتماعي، الخوف الهائل من التبذير المالي البسيط. إلا أن جهوده هذه كانت مثيرة للشفقة، وما غابت عنه دلالتها المأساوية: «يا للأسف! ماذا يفيد هذا الرواح والمجيء، وماذا ينفع هذا التعب، وهذه المغامرة، عند أقوام غريبة؟ ماذا تنفع هذه اللغات التي تغصّ بها الذاكرة، وهذه الهموم التي لا نعرف لها اسماً؟ إذن لن يكون بمقدوري بعد عدة سنوات، أن أستريح في مكان يعجبني، وأن أجد عائلة، وأن يكون لي طفل على الأقل، أقضي بقية حياتي في تربيته حسب أفكاري، وفي تزيينه وتسليحه بالمعرفة الكافية التي يعرفها عصره، وأن يراه يصبح مهندساً مشهوراً، ورجلاً نافذاً وغنياً بواسطة العلم؟ ولكن من يعرف عدد الأيام التي سأقضيها في الجبال هذه؟ يمكنني أن أختفي وسط هذه الأقوام دون أن يبلغ أحد خبري». وللتدليل على أثر والده فيه، يقول دارسوه إنه لم يهاجر بسبب العوز أو الفاقة، فأسرته لم تكن فقيرة، وإنما لأن الخوف من «الأيام السود» لم يفارقه أبداً. لقد هاجر كما يهاجر أي باحث عن الثروة، وأدار ظهره تماماً للشعر، ولم يعد إلى كتابته أبداً، وكأنه لم يكن يوماً شاعراً. بل أنه لم يحاول أن يكون «مستشرقاً» كبقية المستشرقين، يكتب عن مشاهداته في الشرق، ويروي لأبناء جلدته ملامح من رؤيته للشرق. ترك كل ماضيه في فرنسا وتحول إلى مجرد عامل أو وكيل عمال، أو تاجر. لقد اقتنع بما كانت تردده أمه على سامعه، وهو شقي مراهق في عنفوان الشعر والتمرد في كلام حول لا جدوى الشعر. كانت والدته مزارعة متشبثة بالأرض، بالقيم الملموسة والأكيدة وقد تعلمت بعد هجران زوجها لها، أن تحسب ألف حساب لضمان شيخوختها وهناء أطفالها. هكذا سيمضي رامبو بقية عمره باحثاً عن التوبة، دون أن يعرف الغفران (أمضى حياته شقية مع زميله الشاعر الفرنسي فيرلين الذي هجر بدوره زوجته وربطته به علاقة شاذة)، وباحثاً عن الثروة دون أن يعرف أنه حصل عليها. كان يخاف أمه، وقد بحث عن المال إتقاء لغضبها واحتقارها، وابتعاداً عنها، لدرجة أنه لا يتأخر عن القول في حاشية من الرسالة الحزينة التي يبلغ فيها أمه عن مرضه بأنه سيبيع الجوارب، التي كانت قد اشترتها وأرسلتها له (وهي الجوارب المخصصة لمرض الدوالي) دون أن يستعملها.. إلى هذه الدرجة بلغ خوفه منها وتهيبه لها.. ولهذا يبدو رامبو في مواضع عديدة من رسائله أشبه بالمهاجر الباحث عن الثروة في المهجر. لكنه مهاجر مريض بات يخشى العودة إلى وطنه الأصلي ويستبعدها كلما اقترب موعدها. قصد رامبو بلداناً عديدة في الشرق. أقام فترة في قبرص، وأخرى في مصر قبل أن يقيم فوق ضفاف البحر الأحمر، بين عدن وهرر. قصد بلداناً عديدة في الشمال الأوروبي، أو في الجنوب العربي الافريقي، قبل أن يحطّ الرحال في المناطق الشرقية الحارة. ما أغوته نداءات الشرق، مثل غيره من الكتاب الفرنسيين الرحالة ومن المستشرقين، بل وصل إليه صدفة. وكان يحدث نفسه دوماً بمغادرة الشرق الى زنجبار، أو إلى باناما! في قبرص عمل في خدمة الإدارة البريطانية. وفي عدن ارتدى اللباس العربي التقليدي. ومنها سيكتب إلى أمه قائلاً: «نصدّر من هنا البن والجلود والصمغ، ونحصل عليها مقابل القطنيات والبضائع التجارية المختلفة».. وفي رسالة أخرى إلى أمه يطلب منها أن ترسل إليه مؤلفات في صناعة استخراج المعادن وتقنيتها، وفي الطاقة الهيدرولية الزراعية، وفي الهندسة البحرية، وفي علم البناء، والمعادن.. ويكتب إلى قنصل فرنسا في بيروت سائلاً إياه: «لمن يمكننا التوجه في بيروت أو في مكان آخر من ساحل سوريا لشراء أربعة فحول من الحمير، في عنفوان النشاط، من أفضل أصل مستعمل لانجاب أقوى بغال الركوب في سوريا وأكبرها؟ ويقول دارسوه إنه كان تاجراً حاذقاً ونزيهاً. وللدلالة على أنه غرق تماماً في تجارته ونسي الشعر تماماً، طلب منه مدير تحرير مجلة فرنسية معنية بالشعر (اسمها فرنسا الحديثة) أن يتعاون مع مجلته، فلم يكلف نفسه عناء الرد عليه.. لقد كان مهتماً بالثروة فقط لا غير. وسنجد أنه عندما عاد أخيراً إلى مارسيليا بفرنسا، بعد أن افترسته متاعبه الصحية، جمع ثروة معقولة. فأحد دارسيه يقول إن رامبو كان يملك في أيامه الأخيرة ما يوازي مليون فرنك فرنسي، قبل أن تلغي فرنسا الفرنك وتدخل في «اليورو».. وهذا يعني أن رامبو كان عملياً أحد أغنى الشعراء في زمانه. وإذا تقصدنا الدقة أكثر، قلنا إنه كان أحد أغنى الشعراء السابقين..