حلت الذكرى الثانية لوفاة نازك الملائكة، وكم بدا الأمر غريبا على شاعرة كذّب أهلها خبر نعيها مرات، فلم يكن الموت السريري سوى خاتمة صمت طويل لف نازك منذ السبعينيات. ولهذه المناسبة نشرت صحيفة " المدى" البغدادية ملفا عن الملائكة تضمن مادة سبق ان كتبها عبد الوهاب البياتي العام 1977 في مجلة" ألف باء". ومعلوم أن نازك في غير موقع توجهت بالنقد إلى تجربة البياتي، مثلما أرخت له ريادة الشعر كما لنفسها ولبدر السياب. ولعل شهادة البياتي عن نازك لا تضاهيها شهادة أخرى، فهو يتطرق إلى زميلة جامعية ومنافسة على ريادة الشعر، لذا فكل جملة سجلها تحتاج قراءة ترى خلف السطور وبينها، لا تصيدا لمزاج المنافسة، بل من أجل الوقوف على خفايا ذلك الزمن الثقافي الذي كان سعيدا قياسا على ما جاء بعده. ملاحظة البياتي الأولى عن نازك تقول " انها تنتمي إلى بغداد، عاشت ضمن أسرة محافظة مهتمة بالشعر والأدب" . والملاحظة الثانية يمكن تلخيصها كالتالي كانت نازك في بداياتها عظيمة حتى مطلع السبعينيات " فقد اعجبتني لغتها المصقولة التي هي حديثة فعلا بعكس لغة السياب الذي كان في القصيدة يتمرد على العمود ويكتب بلغة كلاسيكية كلغة أبي تمام" والملاحظة الثالثة للبياتي تتلخص بكون رومانسية نازك لا تنتمي إلى رومانسية الرجال العرب أو الأنكليز الذين كانت تهتم بهم، بمن فيهم بايرون أو علي محمود طه. فهي كما يقول " قريبة من شعر الشاعرات الرومانسيات القديمات وشعر المرأة البريطانية الرومانسية التي تهتم بالشؤون الصغيرة والمجتمع الأسري". ويسجل البياتي مناسبتين التقى فيهما الملائكة: الأولى في بيتها نهاية الأربعينيات عندما زار دار الأسرة مع مجموعة من زملائه الطلبة، وجرى النقاش خلالها حول القصيدة الحديثة، فكانت " أفكارها ثابتة لا تقبل المناقشة" فاخبرها الشاعر انها تحاسب القصيدة الحديثة محاسبة الناقد للقصيدة العمودية، وهي لاتعتقد بالإيقاع بل تقيس الشعر الحديث بمقياس البحور التي سنها الفراهيدي. والمناسبة الثانية التي سجلها عن زيارته في السبعينات للكويت بدعوة من رابطة الكتاب، وكانت هي محاضرة في جامعتها، فقد أولمت على شرفه للأكاديميين العراقيين، ودخلت ورحبت بهم ثم اختفت من الجلسة.ويختم ذكرياته بالملاحظة التالية : " على الرغم من فهمها العميق إلا انها اكتفت بالقليل، أو بالأحرى لم تكن لها مغامرة وجودية لغوية. بل اكتفت بحافة الأشياء، حافة التجديد وأجادت إجادة كبيرة حقيقية في هذا المجال. انا أعتبرها شاعرة كبيرة، بل أهم شاعرة عربية في بداياتها". هناك طوران مرت بهما نازك في ذكريات البياتي، الأول عندما كان ميدانها الاجتماعي رحبا، فهي تستقبل زملاءها في البيت وتخوض معهم نقاشا. وتلك الحلقة مفقودة في سيرة نازك البغدادية التي يشير إليها شاعر كان قادما من مكان غير بغداد. والطور الثاني عندما دخلت نازك في عزلتها واضطرابها وقلقها الذي كتبت عنه حياة شرارة في كتابها عن الشاعرة، وأرخته بداية السبعينيات. ولكن في كتب نازك الملائكة نفسها نجد سجلات مهمة لثقافتها واعتقاداتها عن الأدب والحياة، لعل الكثير منها لم يقرأ الى اليوم. ومنها كتابها " قضايا الشعر المعاصر" الذي يتطرق اليه البياتي باعتباره دليلا على نكوص أدب نازك وصرامة أحكامها المحافظة. والحق أن هذا الكتاب يحوي بين طياته قضايا تتعدى قواعد وطرق كتابة الشعر، بل يشتمل على آراء حول دور الشعر باعتباره طريقة للنظر،وهي أفكار في غاية الأهمية قياسا على عصرها، وبين فصوله الجاذبة محاجات عن الشعر والموت والشعر والنقد، والشعر والسياسة والمجتمع. وهي في كل هذا رائدة على غير صعيد، ومثقفة عميقة قياسا على ثقافة عصرها العربي، وعلى وجه الخصوص قياسا على ما كان يكتبه النقاد العراقيون، والشعراء منهم عن الشعر. وكل تلك القضايا التي أثارتها نازك على تعالق مع ما كتبه عنها البياتي من انطباعت سجلها بعد ما يقارب ثلاثة عقود من صدور كتابها.يقول البياتي لم يكن الشعر مغامرة وجودية لنازك، بل هي اكتفت بحافة الأشياء. وهذا القول يبدو بعد كل تلك المسيرة، أقرب إلى تقرير حقيقة إن اخذناه على محمل التبسيط، ولكن تعريفاً ل "المغامرة الوجودية" يختلف من قراءة إلى أخرى، فالشعراء الرواد لديهم الكثير من المعايير المتشابهة، ولكنهم توصلوا إلى طرائق قول مختلفة، ونازك بينهم، أخذت الشعر على محمل الجد باعتباره مغامرة وجودية، حتى أصاب منها مقتلا. وهذا ما تتحدث عنه في فصلها المعنون "الشعر والموت" حيث تستنبط من سيرة الشعراء البريطانيين والعرب ما يقارب مزاجها حول علاقة الشعر بحده الأقصى "الموت" فهي تقول عن الشابي " عاش الشاعر يلهث وأتعبه الشعر حتى قتله". كانت نازك معجبة بكيتس، وغاية إعجابها تتحدد بقوة انفعاله، فهي تقول " كيتس كان يملك قدرة خارقة على الانفعال يندر مثيلها حتى بين الشعراء والفنانين الكبار وكأنه كان متجها بكيانه كله إلى أن يحترق ليكون شاعرا عظيما. إن ألفاظه تنبجس بالعواطف الغزيرة والإحساسات الحادة حتى يكاد القارئ المرهف المتذوق لا يقوى على أن يقرأ شعره في جلسة واحدة " من هو القارئ المرهف الذي تتحدث عنه الشاعرة؟ انه ذاك الذي يتحدد بطرق استجابته الى مغزى الشعر وجدواه، وهذه الاستجابة ذاتية في كل أحوالها، فالشاعرة تبحث عن علاقتها بالقصيدة فيما تدون عن كيتس الذي عادت إليه في غير مبحث، وكانت في بحثها هذا تمثل الحلقة المفقود في الشعر العراقي الذي ظل يفتقد إلى مرحلة أرختها كل الآداب في العالم وهي المرحلة الرومانسية. ولعل نازك الملائكة في حضورها الساطع كانت تفسر ذلك الغياب الفادح للمرأة في حياة الشعر العراقي، ولشعرية الحب في القصيدة العراقية. احترقت نازك بمشاعرها الفياضة في الحالين عندما كانت مؤمنة بالحداثة وعندما استسلمت للتقاليد، فقد كانت تلهث وراء الشعر دون أن تبلغ غايتها حتى قتلها هذا المسعى. تكتب عن مثلث القيم في حياة الشاعر : الانفعال والشعر والموت " فالانفعال هو الموت، لان الأول طريق محتم إلى الثاني.. ومن ثم تبدأ مرحلة من الغرام بالموت نفسه تقابل الغرام بالشعر حتى تصبح الألفاظ الثلاثة في معنى واحد". كانت جولتها حول مواطن الشعر مرهقة حتى اسمتها ب"الجولة الوحشية"، فقد بدأت من حيث انقضى العصر الرومانسي عالميا وعربيا فكانت مهمتها أن تجمع المستقبل والماضي المضاع في حياة الشعرية العراقية. تكتب نازك عن مزالق النقد المعاصر، حيث يخلط الناقد بين القصيدة وموضوعها، وهما شيئان منفصلان كما ترى " ويمكن أن نقول إجمالا إن الموضوع ينبغي أن يؤثر في القصيدة لا في الناقد. فكل ما يهم الناقد أن يلاحظه هو كفاءة القصيدة للتعبير عن الموضوع دون أن يناقش صلاحية الموضوع من الوجهة التاريخية والاجتماعية" كتبت نازك هذا القول في وقت ازدهار القصيدة اليسارية التي مثلها شعر البياتي،وازدهار النقد الملتزم بهذا النوع من الشعر. ولكن الحقائق عندما تقرأ اليوم لا تتعالق مع المناسبات، فقد كرس البياتي نفسه للقصيدة دون التفكير بها كمشروع تنظيري، وهذا ليس عيبا، ولكن نازك فعلت العكس عندما كانت تبحث عن الأصول والمنابع لكل شعر حديث، فهي مهتمة بتقعيد الشعر، بل بتثقيف نفسها، وفق القواعد التي دخلت فيها إلى لعبة الشعر عن معرفة وحرفة. الشعر لا يقبل هذه الحسبة الصارمة، فكل ما خطه السياب او البياتي عن الشعر من ملاحظات بدت ضعيفة ازاء تلك الطلاقة التي تعاملا بها مع القصيدة، في حين هي مشت على حافة الماء في تمردتها التي أرادتها شأنا عائليا،يشاركها فيه الأب والأم والأخت والأخ والزوج، وكلهم أدباء وشعراء على وجه التحديد. يسجل زوجها الأكاديمي الرصين عبد الهادي محبوبة تلك الوقائع التي حبست فيها نازك حداثتها بين جدران عائلتها، فقد كانت تناقش مع الأهل كل قصيدة أو فكرة تريد اطلاقها في سماء الحداثة، وقد رفضت ان تكون مقدمة دواوينها لكتاب خارج الأسرة، فكتبت هي مقدمة ديوانها الرائد "شظايا ورماد"، وكتبت أختها الأصغر إحسان مقدمة ديوانها" عاشقة الليل" ، وكتب زوجها عبد الهادي محبوبة مقدمة كتابها " قضايا الشعر المعاصر". لعل في علاقة الأسرة المحافظة شعريا بمشروع لأول شاعرة حداثية في العالم العربي مفارقة تحتاج إلى تأمل من نوع مختلف.