كنت أتمشى مع صديق مصري في شارع الهرم، عند ناصية " الطالبية" ذلك الحي الشعبي المكتظ بالناس والعربات والمخلفات، رأيت مشهدا سمّرني في مكاني.. طفل صغير في السابعة ربما أو دون الثامنة، يبسط أمامه على الأرض لوحا كرتونيا، ربما كان صندوقا كرتونيا فتحه من كل جوانبه، ووضع فوقه عددا محدودا من " باكيتات " المناديل الورقية الصغيرة، يعرضها للبيع، والى جانبها علبة كرتونية صغيرة يضع فيها النقود من حصيلة البيع، هذا كله أمر عادي ومألوف، أما المدهش والمثير أن الطفل كان يبسط كتابا مدرسيا وكراسة، وينكب على حل واجبه المدرسي تحت ضوء عمود انارة الشارع، ويهتم لهذا الأمر أكثر من اهتمامه لبيع بضاعته. هو تلميذ فقير اذن يساعد أسرته بقليل مما يكسبه، ويواصل دراسته في ذات الوقت. توقفنا خلف الولد نرقب ما يدور. سيدة فاضلة تحاول أن تغالب دموعها التي انفرطت وهي تمد يدها بخمسة جنيهات الى علبة التحصيل وتهم بالانصراف فيناديها الطفل: " لا يا ست هانم.. أنا بائع لا شحات .. خدي فلوسك أو خدي مناديل " . أخرجت من جيبي مائة جنيه وهممت أن أعطيها للولد فاستوقفني صديقي قائلا " انتظر ". توقفت سيارة وخرج منها قائدها وصديق معه يلتقط صورا للولد بالموبايل، سأله رفيقه: لماذا تصوره؟ فرد : " كي أطلع أولاد الكلب على هذا النموذج "فعاد يسأله: " من هم أولاد ال " فرد الرجل: " أولادي طبعا.. أغرقهم بالمال ولا يذاكرون ". اقتربت من الطفل وفي ذهني برنامج له، سألته: أين أبوك؟ قال : مات، وأمك؟ مريضة، هل لك اخوة آخرون؟ قال : بنت أكبر مني تسهر على رعاية أمي.. هذا اذن أصغر رب أسرة في العالم، طفل السابعة الراعي للأسرة والواعي لمستقبله فلا يعطله السعي للرزق عن الدراسة في ضوء مجاني. بصراحة دار في ذهني أن أتكفل بالأسرة وبتعليم الولد وبشكل مريح، وقد لاحظ صديقي تأثري الشديد والغريب أنه كان يبتسم..! طلب صديقي أن نعود الى السيارة ونغادر ليريني شيئا، واتجهنا الى وسط المدينة، وكان يوجهني يمينا ويسارا من شارع الى آخر كمن يسير وفقا لخريطة دقيقة، وبين لحظة وأخرى يقول: " انظر عند هذه الزاوية الى اليمين.. وانظر هنا... وهنا... وهنا " وفي كل مكان يشير اليه صبي في السابعة أو الثامنة يبيع المناديل ويذاكر في ضوء العمود " قلت: " معقول؟ هي ظاهرة اذن تلك الأسر التي ليس لها من يعولها الا طفل " وقال الصديق: " كلا .. دعنا نعد الى الأول لأني أعرفه" عدنا الى طفل شارع الهرم يدفعني فضول وحيرة شديدة، فوجئت بالصديق يمسك الطفل ( من قفاه) بعنف، ويرفعه ليقف وهو يحدثه بلهجة عنيفة أغضبتني، قال له: " تعال اركب السيارة يا حيوان، إنت تبع المعلم عنتر أم المعلم زينهم؟ " قال الولد: " المعلم زينهم يا باشا " ثم أفلت نفسه وأطلق جسمه " الريشة " للريح تاركا النقود والمناديل. قلت حرام ترك كل ما يملك، وقال الصديق : " لا تخف اذا لم يعد بعد أن نرحل سيأخذها زميل آخر من نفس مدرسة المعلم زينهم للنصب والسرقة يراقبنا الآن عن بعد..! * * في نظري أن سرقة الأطفال الصغار، وتعليمهم أساليب مبتكرة للسرقة أو النصب أو الاحتيال، استغلال هؤلاء الصغار المساكين بهذا الشكل للتكسب غير المشروع، لا يكاد يختلف في شيء عن استغلال آخر، وتحت مظلة علنية أو رسمية، في مائة ألف جمعية مسجلة في الوطن العربي، تحت أسماء " جمعية رعاية الأيتام – جمعية اللقطاء – جمعية الأمل أو الوفاء أو النور، أو المستقبل، أو .. أو .. " ألف منها تراعي الله والضمير، و99 ألفا تجني ثروات على أوجاع الصغار...! ليس لدي اقتراح محدد، وإنما قد يكون لديك أنت ..