لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة نشاطات عظيمة تستحق من الجميع الاهتمام والمتابعة وعلينا أن نستفيد منها وأن نشيد بها لأنها نشاطات مدروسة ومخططة بعناية فهي ناتجة عن رؤية ثقافية واجتماعية واعية وناضجة ومخلصة وتتصف هذه الجهود بالتميز والتنوع والانتظام ومن بينها (المشروع الثقافي الوطني لتجديد الصلة بالكتاب) ويتفرع منه ملتقى بعنوان (تجاربهم في القراءة) وقد دُعيتُ للتحدث في هذا الملتقى وفي بداية حديثي أوضحتُ أن ما يشغل ذهني منذ وقت مبكر من حياتي هو تخلف المسلمين وازدهار غيرهم وأن هذا التخلف يسيء إليهم وإلى الإسلام ذاته وقلت ما معناه - لأني لم أكن أتحدث من نص مكتوب -: بأنه لمعرفة أسباب تخلفنا وعوامل ازدهار الغرب قرأت التراث العربي الإسلامي بلهفة وشغف بحثاً عن مصدر الخلل وعن وسائل العلاج حتى تشبَّعتُ به ثم قرأت التراث الغربي باهتمام وتوسُّع: فلسفة وأفكاراً وتاريخاً وأدباً وتحولات منذ إشراق الفلسفة في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد فاكتشفت التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية ووجدت أن الفكر الفلسفي وخصوصاً الجانب النقدي منه هو مصدر هذه التغيرات المدهشة إنه حافز النمو ومنبع التميز فقد كان هذا الفكر هو محرك العقل الأوروبي وهو مصدر كل ما تحقق له من ازدهار غير مسبوق ولا متوقع لأنه ليس في نتاج كل الحضارات القديمة ما يشير إلى إمكانية ظهور هذه التغيرات العظيمة واقتنعت أن المسلمين لن يخرجوا من قوقعة التخلف ويتمكنوا من تحقيق الازدهار ورفع شأن دينهم ودنياهم حتى يستوعبوا هذه التغيرات النوعية ويتعاملوا معها بوعي وفاعلية. وكان سياق الحديث يقتضي أن تكون كل استشهاداتي من الحضارة الغربية (علماء وفلاسفة ونقاداً ومبدعين) وكالعادة رأى بعض الحاضرين أنه كان يجب أن استشهد بفلاسفة وعلماء من أسلافنا مع أنني منذ بداية الحديث كنت أتحدث عن أسباب إزدهار الغرب وعوامل تخلفنا أي أنني كنت أتحدث عن مكوِّنات الحضارة المعاصرة وعوامل ازدهارها وضرورة أن نتعرف على هذه العوامل والمكوِّنات وأن نأخذ بها حتى تزدهر عقولنا وتزدهر دنيانا ويزدهر شأن ديننا وهي عوامل ومكوِّنات لم يتناولها أسلافنا ولا يوجد في كتبهم ما يفيد في المجال الذي تحدثت عنه فالسؤال يقول: ألم تجد من تستشهد به من العرب؟! وهو سؤال تكرر طرحه كثيراً عليَّ وبالطبع لم يكن السائل أو المعترض يعني العرب المعاصرين وإنما يعني الأسلاف الذين هم دائماً محل افتخارنا فالحديث كان مقارنة بين وثبة الغرب الفلسفية والعلمية التي أنجبت الحضارة المعاصرة وتراث الحضارات القديمة بما فيها حضارتنا.. لكني فوجئت فيما بعد بأنه قد أسيء فهم ما أردت فجرى التناقل لمعنى مغاير لا يتفق إطلاقاً مع الذي قصدته ففهم بعض الحاضرين بأنني أقصد نفي الحاجة لقراءة إنتاج المثقفين العرب المعاصرين وهو معنى لم يرد في ذهني بتاتاً ولا يمكن أن يرد ولم يكن سياق الحديث يقتضي ذلك فقد كنت أتحدث عن تراث قديم لنا وللحضارات القديمة مقارنة بتغيرات نوعية في الفكر والعلم وأسلوب الحياة هي قوام الحضارة المعاصرة لكن الإنسان من طبيعته في الغالب أنه يفسِّر ما يسمع وما يقرأ انطلاقاً من رؤية ذاتية مسبقة فهو محكمومٌ بما يفكر به وليس بما يقوله الآخرون ويحكم بما يتوقع وليس بما وقع فقانون التوقع هو أحد العناصر الأساسية في الطبيعة البشرية وهذه مشكلة يواجهها كل من يتحدث إلى الناس في شأن يختلفون حوله حتى لو كان هؤلاء الناس نخبة المجتمع وكمثال على ذلك أُورد ما ذكره رئيس بنك الاحتياط الفدرالي الأمريكي السابق آلان قرينسبان في كتابه (عصر الاضطراب) فقد واجه هذا المأزق في ظرف متأزم بين الكنغرس والرئيس بوش حيث كان مطلوباً منه إبداء رأيه أمام الكونغرس فقد كان بوش يريد تخفيضاً كبيراً للضرائب بينما أعضاء في الكونغرس يعارضون هذا التخفيض وكان هو يؤيد تخفيضاً بسيطاً ليس كبيراً كما يريد الرئيس ولا عدم التخفيض بتاتاً كما يريده معارضوه وقد أبلغه المعارضون بأن الكونغرس لن يفطن للموقف الوسط وإنما الآراء ستكون مع أو ضد وقال له أحدهم: "ليس المهم ما تقوله بل الطريقة التي سيُفهم بها قولك" فردَّ آلان بأنه مسؤول عن إيضاح وجهة نظره وليس عن فهم الناس ولكنه فوجئ بما لم يتوقع فقد نجح اقتراح بوش بناء على الإيضاح الذي قدَّمه آلان رغم أنه لم يكن يؤيد ما حصل وحمَّله الكونغرس والإعلام مسؤولية القرار المدوي. لم أكن أثناء الحديث محتاجاً إلى إيضاح أنني تتلمذت على المثقفين العرب المعاصرين لأن هذا التتلمذ من البداهات فأنا أقرأ لهم بل إن هؤلاء المثقفين هم نافذتي إلى الثقافات العالمية الأخرى فلولا الترجمات التي أنجزها المترجمون العرب لما اطلعت على الفكر العالمي فعن طريقهم قرأت الفلسفة الألمانية والفرنسية والإنجليزية واليونانية والروسية والهندية والصينية واليابانية وبواسطتهم عرفت تاريخ الحضارات وتاريخ العلم شرقاً وغرباً فأتيح لي أن أقارن وأفحص وأتأمل وأن أخرج بالنتائج التي تحدثت عنها. كما أنني أكدت في عدة مناسبات أنني أتابع وأقرأ لكل الكُتَّاب السعوديين ففي لقاءات صحفية أوردت أسماء كثيرة منهم جاءت ضمن كتابي الأخير (حوارات الفكر والثقافة) الذي أعده الأستاذ عبدالله المطيري وقد وردتء الأسماء في الصحفتين ( 376- 377) وكذلك ابتداءً من الصفحة (354) أما على المستوى العربي فقد قرأت لأكثر الكُتَّاب والمثقفين والمبدعين والمفكرين العرب وكان في مقدمة أولئك المفكرين عباس محمود العقاد وطه حسين وأحمد أمين وعثمان أمين وتوفيق الحكيم وعلي الوردي وعلي حرب ومطاع صفدي وزكي نجيب محمود وشاكر مصطفى ومحمد عابد الجابري وعبدالله العروي وأدونيس والصادق النيهوم وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمد سبيلا وسالم يفوت وأبو يعرب المرزوقي ومحمد الحبابي وعبدالسلام بنعبد العالي والطيب تيزيني وبرهان غليون وفهمي جدعان وعبدالفتاح كليليطو وأحمد برقاوي وخليل أحمد خليل وعبدالرحمن مرحبا والسيد يسين وعبدالمجيد الشرفي وشاكر النابلسي ومصطفى حجازي والمهدي المنجرة وإبراهيم العريس ومالك بن نبي والمنصف المرزوقي والعفيف الأخضر وإبراهيم محمود وسالم القمودي وأعداد لا حصر لها من الذين تتلمذت عليهم أو قرأت لهم حتى وإن كنت اختلف مع بعض أو كل ما يطرحون. والأهم من ذلك أن النشطاء من المثقفين العرب المعاصرين كانوا هم النوافذ المضيئة التي اطَّلَعءتُ من خلالها على الفكر العالمي فالإصدارات المهمة من جميع اللغات تأخذ طريقها فوراً إلى اللغة العربية وأحياناً يصدر للكتاب الواحد إذا كان مهماً عدداً من الترجمات العربية بجهود فردية يسخو بها المترجمون الرائعون من أجل أمتهم وكمثال على ذلك فإنه ما كاد كتاب (نهاية التاريخ) لفوكو ياما يصدر في اللغة الإنجليزية حتى وجدنا له في اللغة العربية عدداً من الترجمات وكذلك (صدام الحضارات) لصامويل هنتنقتون ومؤلفات الفين توفلر وبول كندي وإدقار موران وتزفيتان تودوروف وإدوارد دي بونو وإريك هوبنزباوم وغيرهم مما لا مجال لحصرهم ويكفي أن يعلم القارئ بأن كتاب (بنية الثورات العلمية) لفيلسوف العلم الأمريكي توماس كون على سبيل المثال له في اللغة العربية خمس ترجمات فقد ترجمه كلٌّ من: شوقي جلال وماهر عبدالقادر وسالم يفوت وعلي نعمة وأخيراً الترجمة التي أنجزها حيدر حاج إسماعيل وصدرت عن المنظمة العربية للترجمة وبدعم من صندوق الأوبك للتنمية العالمية وربما أن له ترجمات أخرى لم أطلع عليها وليست هذه سوى أمثلة لجهود المترجمين العرب فهم يؤدون لأمتهم خدمات عظيمة عجزت أو تخلَّتء عن أدائها المؤسسات الرسمية. إن القارئ العربي كان وما زال وسوف يستمر يتابع بواسطة الترجمة الإنجازات العالمية في مجالات العلم والفكر والأدب والفن فور صدورها من جميع اللغات وهذا فضلٌ عظيم يجب أن يُنسب للمترجمين الأفراد الرائعين وعلى سبيل المثال فإن عبدالرحمن بدوي نهض في مجال الفلسفة بمجهود عظيم في الترجمة من اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية والايطالية وله أيضاً في التأليف جهود عظيمة ومن أجمل وأروع ما أنجز كتابه عن (نيتشه) والعجيب أنه أول إنجازاته الكثيرة لكنه هو أروعها وأشدها حرارة وصدقاً وتأثيراً. إن المترجمين العرب الكادحين جنودٌ مجهولون يستحقون التكريم والإشادة فهم ينهضون بعبء عظيم ويقدمون في مجالات الفكر والعلم والأدب والفن خدمات جليلة لكن ما أسرع ما ينساهم الناس مع أن الترجمة الشغوفة عملٌ إبداعي فالفرق كبير بين ترجمة يقوم بها مترجم يمارس الترجمة كوظيفة ثقيلة وبين مترجم يسعى بنفسه وبشغف إلى الانغماس اللذيذ في النص الأجنبي ثم يترجمه إلى اللغة العربية وكما تعبِّر ثرياً توفيق في تقديم ترجمتها لكتاب (أحلام يقظة جوال منفرد) حيث تقول: "فلا ينقل الأدب إلا محبوه ومع ذلك فالفارق واضح بين ترجمة أدبية يقدمها محبٌّ لها شغوفٌ بها وبين ترجمة أدبية تجيء عن تكليف فتخرج باردة أو فاترة ومن ثمَّ اختلفتء الموازين اختلافاً بيننا" أما المثقف المبدع عبدالغفار مكاوي فيحكي أنه اتفق مع الشاعرين عبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور بأن ينهضوا ثلاثتهم بترجمة الشعر العالمي وتقاسموا العمل حسب اللغات التي يجيدها كل منهم ولكنه فوجئ بصاحبيه قد انشغلا بالإبداع عن الوفاء بالالتزام فيقول: "فهالني أن الصديقين الكبيرين لم يسيرا في مشروعنا خطوة واحدة.. لقد عكف كلُّ منهما على شعره وإنتاجه وحزنت في مبدأ الأمر ثم تبين لي أنهما أحسنا صنعاً فليس أضرَّ بالفنان المبدع من التخلي عن موهبته إلى النقل والترجمة ولكني كنت قد وقعت في الفخ ولم يكن بدٌّ من الاستمرار فيما بدأت" لقد أمضى سنوات في هذا العمل الذي التزم به لأنه لم يلتزم بترجمة كتاب واحد من لغة واحدة وإنما التزم بأن يقرأ الشِّعر في اللغات التي يجيدها وهي: الفرنسية والألمانية والأسبانية والايطالية فيختار ما يراه الأجدر بالترجمة ومعلومٌ أن ترجمة الشعر لا يجيدها سوى شاعر موهوب فالترجمة تكاد تكون في مستوى الإبداع المحض فأنجز عملاً جميلاً وجليلاً في جزءين لكنه لم يتردد بأن يؤكد بأنه كره الترجمة وزهد فيها لأن الناس يذكرون المؤلف وينسون المترجم إضافة إلى أن الترجمات تتعدَّد للكتاب الواحد فيشعر المترجم بضياع جهده وهو مثل ثرياً توفيق يؤكد بأن الترجمة يجب أن تكون نَقءلَ تذوق وتأمل وليس نقلاً حرفياً يذهب ببهاء النص ويتلف الكثير من روحه وانسجامه ومعناه. إن الترجمة عملٌ عظيم وهي الجسر الذي عَبَرتء منه الأمم إلى روائع وإنجازات الأمم الأخرى المزدهرة إنها قطفٌ لثمار يانعة وثمينة ومنوعة وعظيمة ولكنها أيضاً تنطوي على قدر كبير من التضحية من قبل المترجمين لأن الناس ينسون جهدهم أو لا يقدرونه التقدير الكافي وكما يقول عبدالغفار مكاوي: "وإذا كنا نتفق على أن الخلق الأدبي عذابٌ ومعاناة فالترجمة عذابٌ ومعاناة مضاعفة فلابد أن تتقمص روح المؤلف وفكره وإحساسه ثم تنقلها في صبر وتعاطف وحب إلى جسد لغة أخرى ولا بد أن تكون لديك القدرة على الفناء في النص الأصلي والقدرة على إفناء نفسك أمامه أي على القيام بفعل صوفي حقيقي فيه الوجد ونكران الذات" بهذا الفناء والاستغراق يأتي العمل أقرب إلى الكمال إن الذين محضونا كل هذه التضحيات يستحقون منا كل اعتراف وإشادة واحترام وتبجيل. ومع هذا الفناء والاستغراق الذي تقتضيه الترجمة الجيدة فإن مفكراً كبيراً رائعاً بقامة زكي نجيب محمود قد أنفق الكثير من جهده ووقته واهتمامه في مجال ترجمة روائع من الفكر العالمي وهو حين نهض بذلك العبء الباهظ فإنه قد خَدَم الأمة بما لا يقل عن مستوى مؤلفاته الرائعة فقد أسهم مع آخرين وبإشراف أحمد أمين في ترجمة كتاب (قصة الحضارة) لويل دورانت وهو كتابٌ ضخمٌ يقع في (42) جزءاً كما ترجم منفرداً كتاب (المنطق: نظرية البحث) لجون ديوي وكتاب (آفاق القيمة) لرالف بارتن بيري كما ترجم الجزءين: الأول والثاني من كتاب (تاريخ الفلسفة الغربية) لبرتراند راسل أما الجزء الثالث فترجمه محمد فتحي الشنيطي الذي له أيضاً جهودٌ مهمة في مجال ترجمة نصوص فلسفية أساسية فمن الكتب التي ترجمها الشنيطي كتاب (تاريخ الفلسفة الأمريكية) لهربرت شنيدر ويُعَدُّ فؤاد زكريا من الذين خدموا الأمة بترجمات مهمة في مجالات الفلسفة والفكر والفن والأدب ومن ترجماته كتاب (حكمة الغرب) بجزءيه لبراتراند راسل وكتاب (الفلسفة الإنجليزية في مائة عام) بجزءيه أيضاً لرودلف متس وكتاب (النقد الفني) لجيروم ستولنيتز أما زكريا إبراهيم فقد عَرَضَ الفكر الفلسفي الغربي بسلسلة من الكتب تحت عنوان (مشكلات فلسفية) وأصدر ثمانية كتب عن منشكلة الحرية ومشكلة الإنسان ومشكلة الفن ومشكلة الفلسفة والمشكلة الخُلقية ومشكلة الحياة ومشكلة البنية وبذلك يسَّر الإلمام بالفكر الفلسفي عن القضايا الإنسانية الأساسية. وفي حال ترجمة مراجع التاريخ العالمي بشكل عام والتاريخ الأوروبي بشكل خاص نجد أن لعبدالعزيز جاويد جهوداً كبيرة وكذلك جوزيف نسيم يوسف وقاسم عبده قاسم وإلياس مرقس ومحمود إبراهيم الدسوقي ونور الدين حاطوم وحسن صعب وفؤاد محمد شبل وأحمد عزت عبدالكريم ومحمد شفيق عربال وخيري حماد وغيرهم وهناك من لهم ترجمات جيدة في مجالات عديدة ومن أشهرهم منير البعلبكي الذي ترجم نحو مائة كتاب كما كان أيضاً يُصدر سلسلة ترجمات ملخَّصة ومبسطة تحت عنوان (علم نفسك) ويُعَدُّ أحمد محمود من أغزر المترجمين إنتاجاً. إن مساحة هذا المقال لا تسمح بالمزيد لذلك اكتفي بهذه الإشارات الخاطفة وهي تعترف بالدين العظيم الذي ندين به للمترجمين العرب فقد كانوا يتحملون عناء الترجمة بمحض الرغبة في تنوير الأمة لذلك فإن الدَّين الذي نحن مدينون لهم به لا يفيه أي قول فلم نكن لنعرف الأدب الروسي لولا ترجمات سامي الدروبي وآخرين ولا كارل بوبر لولا جهود يمنى طريف الخولي وآخرين ولا نيتشه لولا محمد الناجي وآخرين ولا كانط لولا عبدالرحمن بدوي وآخرين ولا ميشيل فوكو لولا اهتمام مطاع صفدي وآخرين ولا غاستون باشلار لولا خليل أحمد خليل وآخرين ولا ديكارت لولا عثمان أمين وآخرين ولا يغني القارئ العربي أن يعرف إحدى اللغات الأجنبية لأن روافد الفكر والعلم والفن والإبداع تتدفق من كل اللغات الأوروبية كما أن المترجم الشغوف الممارس يكون أكثر إتقاناً للغة التي يترجم منها والتي يترجم إليها فيقدم النص الأجنبي إلينا سائغاً بلغة الأم التي نتذوق بها تذوقاً تلقائياً بخلاف اللغة الطارئة التي يصعب الفهم فيها وتذوق النص منها. إن العربي الذي يتعلَّم اللغة الأجنبية على كبر ولم يمارسها ممارسة حياة سيجد صعوبة كبيرة في فهم النصوص خاصة إذا كانت نصوصاً فلسفية فإذا ترجمها مترجم شغوف يجيد اللغتين ولديه ممارسة طويلة في الترجمة فسوف يخدم حتى الذين يجيدون اللغة الأجنبية لأنه يقرِّب النص لروح اللغة العربية ويعمل على تطويعه روحاً وأسلوباً ليكون سائغاً. إن السبيل إلى أفكار العصر وعلومه وآدابه وفنونه ليس بأن يتعلَّم كل الناس جميع اللغات الأجنبية وإنما الترجمة المنظَّمة الدقيقة الآتية عن رغبة وشغف والمدعومة باحتراف ومعايشة هي السبيل إلى قطف ثمار الإبداعات الإنسانية. إن إعداد المترجمين شيءٌ ممكن أما أن يصير لدى كل الأفراد قدرة الدخول المباشر للإبداعات الأجنبية فهذا محال ولا يؤدي إلى نتيجة فالترجمة هي بوابة الدخول لثقافة العصر ويكفي أن نعلم بأن كانط وهو أعظم الفلاسفة الأوروبيين لم يكن يجيد سوى لغته الألمانية وقد كانت يقظته الفلسفية عن طريق قراءة هيوم مترجماً من الإنجليزية وكانت يقظته الأخلاقية بواسطة روسو أيضاً مترجماً من الفرنسية فالترجمة هي النافذة التي أطلَّ منها أعظم الفلاسفة على الفكر العالمي حيث لم يكن يجيد أية لغة أجنبية فحاجز اللغة يكسره الاهتمام بالترجمة والعناية بالمترجمين.