عندما يحتدم النقاش بين المتحاورين تبرز عادة عبارة "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية". وما ألاحظه في الآونة الأخيرة وأنا أتابع بعض الحوارات على صفحات الصحف أو من خلال البرامج الإذاعية والتلفزيونية هو أن القضية المطروحة للنقاش ضائعة، والود مفقود. ولعل القارئ يلاحظ معي في بعض الحوارات الابتعاد عن الموضوع والدخول في مهاترات شخصية بسبب ضعف الحجة واعتداد كل طرف بما لديه ونتيجة لذلك تعوّد القارئ على ما يرد في الحوارات غير الموضوعية من عبارات يلجأ إليها المحاور في محاولة لكسب الجولة ولكنه في نهاية المطاف لا يكسب الجولة، ويخسر القارئ الواعي. تلك العبارات التي أشرنا إليها وهي مؤشر لعدم الموضوعية تتمثل في المقولات التالية للتمثيل وليس للحصر: - رمتني بدائها وانسلت. - كاد المريب أن يقول خذوني. - فاقد الشيء لا يعطيه. - كل إناء بما فيه ينضح. - نسمع جعجة ولا نرى طِحناً. وما يصدم القارئ أن الخروج عن الموضوعية لا يصدر من المبتدئين في دنيا الثقافة وعالم الحوار ولكن من أُناس يصنفون في قائمة المثقفين والمفكرين والعلماء ويفترض في هؤلاء تقديم نماذج يحتذى بها فهم قدوة للجيل الجديد، وما يحدث أحياناً في الحوار بين الرموز الكبيرة وبين رموز الجيل الجديد هو أن مبدأ القدوة يضيع عندما تتسع مساحة الاختلاف في الرأي حيث تكثر المخارج التي تؤدي إلى شخصنة الحوار ويصعب الرجوع إلى الطريق الرئيس الذي يقود إلى الهدف من الحوار. من تلك المخارج التي تبعد المتحاورين عن الموضوعية الاتهام بالجهل حيث يلجأ أحد الطرفين إلى اتهام الطرف الآخر بأنه غير مؤهل للحوار حول القضية المطروحة، أو اتهامه بأنه يتبع مبدأ خالف تعرف ويسعى للشهرة. وقد تطورت هذه المخارج (التهم) وتحولت إلى قاموس التصنيف وبدأنا نلاحظ في متابعة الحوارات تبادل تهم من نوع آخر فيقال هذا ليبرالي، وذاك علماني والآخر ملتزم، والرابع من الأصوليين وهكذا يتم توزيع الناس وتصنيف البشر لمجرد الاختلاف في الرأي. ولنتذكر دائماً ونذكّر القراء وأصحاب الحوار أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فأين الود، وأين القضية؟! إن المطلوب في النقاش العلمي هو العلاقة العلمية الثقافية وليس العلاقة العاطفية، والمتابع للحوارات العلمية لا يتابع مسلسل الود بين المتحاورين كيف بدأ وكيف تطور وإلى أين وصل وإنما يتابع الحوار العلمي ليستفيد وينمي ثقافته ومعلوماته وينمي مهارة الحوار. أما الود فليس هو الغاية، وحيث إنه كذلك فليس هناك مجال للمجاملة على حساب العلم ولكن هذا لا يعني تجاوز الخطوط الحمراء، والدخول في معارك كلامية بحجة أن لا مجاملة في العلم! إن الهدف من الحوار هو التوصل إلى الحقيقة وأما الود فهو قضية أخرى قد تكون موجودة أو مفقودة ولكن في كلا الحالتين يجب أن لا تتدخل وتؤثر في الحقائق الموضوعية.