كل شخص يمتلك حرية الرأي والتعبير المسؤول له حق أن يطرح ما لديه من أفكار ورؤى مفيدة لمجتمعه، ولكن عندما يفتقد الرأي للمنطق، والمصداقية، وتسيطر عليه الأنانية، وانتصار الذات، وأدبيات الحوار، وتحديداً الاستماع للآخر؛ فإن ذلك كله لا ينمي في الذات الحكمة، وبُعد النظر، وتقدير المصلحة الوطنية، بل على العكس يمضي الإنسان في زهو جائر!. والمتابع اليوم لوسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي يجد أصنافاً من المشاركين والمشتركين يبحثون عن حضور الذات، وانتصارها، وتفريغ شحناتها، والتنفيس عنها بطريقة مشوهة، حتى أن البعض يتباهى بقدرته على أن "يقلب الحق باطلا والباطل حقاً"!، كما أن بعض المحاورين يقاتل ويستميت ويتجاوز كل الخطوط وقد يتطاول على غيره لإثبات وجهة نظره وما يطرحه من أفكار، حتى وإن كان ذلك لا يمت للمنطق بصلة، وعندما يجد نفسه في مأزق ولم يستطع إقناع غيره بفكره يكون مخرَجهُ أنّ تلك هي "وجهة نظره". "الرياض" التقت مع بعض الكتّاب والأدباء والإعلاميين والنقّاد وناقشت موضوع الانتصار للذات "من وجهة نظري". ثقافة وتحضّر بداية ذكر الأستاذ "عبد الرحمن الجبيري" -إعلامي وكاتب- أنّ فكرة الانتصار للذات قد تكون مسيطرة على الغالبية العظمى من المتحاورين، خاصةً في الوطن العربي، وربما هي ثقافة قبل أن تكون لغة حوار، حيث يسعى الكثير منهم إلى إثبات موقفه، وأنّه بالرغم من انتشار الرؤى الثقافية التي تحث على التحلي بأخلاقيات الحوار واحترام الرأي الآخر، إلاّ أنّ الحياد يبقى في غاية الصعوبة، ولا يكاد البعض أن يسلم من ما يسمى "العواطف والتعاطف مع المواقف"، منوهاً إلى ضرورة بث ثقافة جديدة تستند على معايير الحوار الراقي وتقبل الرأي الآخر، وان كانت تحتاج إلى مراحل طويلة، إلاّ أنّها قد تساعد في تحضّر الأجيال القادمة. النظر للخلف! ويرى الأستاذ "سمير الغامدي" -كاتب- أنّ المشكلة تكمن في العقول التي لا تستطيع أن تصل إلى برّ الأمان في الحوار فتختلف أهدافها، ولذا نجد من يرغب الانتصار لذاته تواجهه العديد من العقبات، ومع مرور الوقت يحاول التغلب عليها؛ لأنه اكتشفها بنفسه، أو شعر بها من المحيطين حوله، ولكن الأهم أن يمتلك القدرة على التفكير بالمستقبل وعدم النظر للخلف. برامج حوارية ولفت الأستاذ "غالب كامل" -إعلامي- أنّ معظم البرامج الحوارية في وسائل الإعلام حالياً يلاحظ على من فيها أنّه لا يعطي قيمة للهدف الرئيس من الحوار؛ بقدر الحرص على كسب النقاط لمن يتكلم أكثر، ويرفع صوته أكثر، حتى إنّ بعض المسؤولين عن هذه البرامج من المذيعين يقعون في ذات الأمر أكثر من الضيوف أحياناً، والذين يفترض أن تكون لديهم القدرة في إدارة حلقات النقاش بعيداً عن انتصار الذات، وبذلك تتحول الجلسة إلى أشبه ما يكون ب"بسطة في الحراج"، ويضيع الهدف وسط موجات الاختلاف ومحاولات الإقناع وتسقط مقولة "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". حوار "طرشان" ووصفت الأستاذة "عائشة خجا" -باحثة في القضايا المعاصرة- أن المشكله في "حوار الطرشان" أنّ كل شخص معتز ومتمسك برأيه، ولا يرغب في سماع الطرف الآخر -بغض النظر عن صحة الرآي الآخر من عدمه-، مشيرةً إلى أنّ هناك العديد من الدورات التي تعلّم الإنسان كيف يمكنه الإنصات للطرف الآخر ومحاولة استيعاب وجهة النظر المخالفة بحيادية ومنطق؛ بعيداً عن التعصب والاندفاع، ومن أشهر هذه الدورات على سبيل المثال "العادات السبع". فطرة بشرية وأوضح "أحمد الجديع العنزي" -شاعر وناقد أدبي- أنّ الانتصار للذات فطرة بشرية موجودة في كل نفس، حتى وإن كان هذا الانتصار على خطأ، وأنّ النفس البشرية تبقى محبة للانتصار في كل أحوالها، وأنّ الانتصار للحق هو الأجمل في كل الظروف. سيطرة العناد وقال "د.ماهر الرحيلي" -وكيل كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية للجودة والتطوير- "حب الذات أمرٌ متأصل في الإنسان وهو إيجابي حين يدعونا إلى القرب من الله والفوز بجنته، أو لتثقيف الذات والنهوض بها علمياً ومهارياً على مختلف المجالات والأصعدة، ولكن قد يتوجّه هذا الحب للذات وجهة غير محبذة فيطغى على أولوياتٍ أخرى، كالبحث عن الحقيقة في الحوار مع الآخر؛ ذلك أنّ البعض قد ينجرف وراء الانتصار لذاته لا لرأيه، فتحصل المشكلة ويسيطر العناد ورفض الآخر على جو الحوار، وإنّ الانتصار للذات على حساب الحقيقة والصواب فيه تضييع كبير للفائدة المرجوة من الحوار الهادف البناء، كما أنّ اختلاف الآراء وتفاصيلها رافدٌ كبير بالثقافة والعلم، ولا يليق بعاقل أن يجعل هذا الاختلاف بسبب الانتصار للذات داعياً إلى القطيعة مع الآخرين"، معتبراً الإمام الشافعي مثالاً رائعاً في البعد عن الإنتصار للذات، ولم يجعل الاختلاف في الرأي دافعاً للقطيعة، مستشهداً بموقفه حين اختلف أثناء مناظرته مع يونسَ الصدفي حول مسألة ما، ثم افترقا بعد ذلك، فلما لقيه بعدها قال له بكل نقاء وإحسان بعد أن أخذ بيده: "يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة". وأضاف أنّ الحوار مع الآخر له آداب ينبغي الالتزام بها، منها؛ إحسان النية وأنّ يكون الهدف هو الوصول إلى الحق والصواب الذي يدعمه الدليل أو العلم أو المنطق، حتى وإن كان هذا الحق مخالفاً لما يعتقده الطرف المحاوِر، وفي هذا الجانب ضرب الإمام الشافعي أيضاً مثالاً رائعاً إذ نقل عنه أنّه قال: "ما ناظرت أحداً إلاّ وتمنيت أن يكون الحق على لسانه". «حراج تويتر» ترك الغالبية تنتصر لمواقفها وآرائها الشخصية