قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زُرَافاتٍ ووحدانا (قُريظ بن أُنيف) أيامنا والليالي كم نعاتبها، شبنا وشابت وعفنا بعض الأحوال (بديوي الوقداني) العرب يكرهون العيّ، ويعشقون البلاغة وجمال التعبير.. والبلاغة فنٌ وموهبة قبل أن تكون علماً وقواعد، وقد حاول السكاكي (تقعيد) البلاغة فأخفق إلى حد كبير، ذلك لأن البلاغة فن والفن يستعصي على التقعيد والتقييد. والسكاكي وغيره ممن حاولوا جعل البلاغة علماً، قد بذلوا جهداً يشكرون عليه، ولكنهم - وخاصة السكاكي الذي هو أعجمي ولا يعيبه هذا ولكنه يجعل تذوق بلاغة العرب يصعب عليه - كانوا يشبهون من يضع البلبل في قفص، وحلاوة البلبل أن يغرد حراً متنقلاً بين الأغصان والأشجار والزهور والورود، فمهما كان القفص مذهباً فإنه لن يغري البلبل بالتغريد.. وخير من كتب عن البلاغة عبدالقاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) حيث غاص على جواهر المعاني قبل اهتمامها بالحدود والقيود.. وخير من يتحدث عن البلاغة هم البلغاء أنفسهم.. الموهوبون من الشعراء والناثرين.. @@@ والشاعر الموهوب يقدم لك صورة البلاغة بخياله الواسع، وتعبيره الدقيق، حتى إن (أتفه الأشياء) قد يُعبّر عن (أجمل الصور) بفضل عبقرية الموهوب وخياله الرحب وتصويره الصادق.. فنجد أن (الذباب) وهو أتفه الأشياء قد ورد في صورة رائعة من البلاغة حين قال عنترة بن شداد يتغزل بعبلة ويصف رائحتها برائحة روضة بكر جادها الغيث: وكأنما نظرتء بعيني شادن رشاءٍ من الغزلان ليس بتوءأم وكأن فارة تاجر بقسيمة سبقت عوارضها إليك من الفم أو روضة أُنفاً تضَّمن بنءتُها غيثٌ قليلُ الدءمن ليس بمُعءلم جادتء عليها كُلُّ بكءر حُرَّة فتركنَ كُلَّ قرار كالدرهم سَحَّا وتسكاباً، فكُلُّ عشيِّة يجري عليها الماءُ لم يَتًصَّرم وخلا الذبابُ بها فليس ببارح غرداً كفعءل الشارب المُتَرنِّم هزجاً يحكُّ ذراعهُ بذراعه قدءح المُكبِّ على الزناد الأجءذم قوله: فارة: أي فارة المسك مأخوذة من فورة رائحته التي تنعش النفوس.. لقد شبه رائحة محبوبته بالمسك الفتيق، وبالروضة الأنف (أي التي أنبتت أول مرة فأرضها بكر تفوح بالعطر والخصب) وقد جادت عليها (كل بكر حُرّة). والبكر هنا هي السحابة أول الربيع، حيث يكون مطرها فاتحة خير، وتستجيب له الأرض بالعناق والحب وأزكى الروائح، حتى إذا فاض الماء على الروضة المعطاء رأيت الذباب يترنم بها لا يستطيع أن يبارحها فهو ثمل هزج من شدة فرحه يحك ذراعه بذراعه سريع الصوت والحركة لشدة الفرح وهو يشبه - حين يحك ذراعه بذراعه بهجة - يشبه مقطوع اليد (الأجذم) حين يكب على الزناد ليقدح النار.. صورة بليغة ومبتكرة.. @@@ ومن الشعر البليغ قول العوني: راكبٍ فوق حرٍ يذعره ظلّه مثل طير كفخ من كفّ قضَّابه فقد وصف هذا الحصان بأنه شديد السرعة (يذعره ظله) أي يسابق ظلاله، وشبَّه بطير هرب سريعاً من يد صاحبه الذي يمسك به (كفخ) وهي كلمة بليغة والطير إذا هرب من اليد الممسكة به يكون شديد السرعة ممعن الهرب.. @@@ ومن الصور البلغية في شعرنا العامي قول حميدان الشويعر: نخيت قرم من عيالي مسلّط إذا نزر ماذاق الطعام أسبوع فقد كنى عن رفض ابنه للدنية، وشدة عزة نفسه، بأنه إذا وجهت له الكلمة الحادة عاف الطعام حتى ينتقم أشد انتقام.. @@@ والبلاغة صفة نفسية كالشجاعة، توجد في الفصيح والعامي، إنما ميزة الفصيح كثرة من يفهمه ويتذوقه، أما العامي فلا يدرك سر جماله إلا من يفهم اللهجة العامية التي قيل بها.. وعامية نجد خاصة، وجزيرة العرب عامة، هي أقرب ما تكون للفصحى من عامية الأقطار الأخرى.. ومن الشعر العامي القريب جداً من الفصيح، والبليغ في معناه ومبناه قول بركات الشريف: في كل دار للرّجال معيشه والرزاق كافلها جزال وهايبهء إلى نبحتنا من قريب كلابه ودبّتء من البغضا علينا عقاربهء نحيناه باكوار المطايا ويمَّمتء بنا صوب حَزءم صارخات ثعالبه بيوم من الجواز يستاقد الحصا وتلوذ باعضاد المطايا جخادبه موت الفتى في جوف دَو سملّقء خليّ من الأوناس قفءر جوانبهء علي الرَّجءل أشوى من مقامه بديرهء يعيش بها والغبن فيها مطانبهء