إن العرب - وخاصة أهل نجد حيث لا بحرٌ ولا نهر بل عطش وجفاف - يُحبُّون المطر حُبين:٭ حُبّ البقاء، فالمطر ضرورة للبقاء وبدونه يهلكون بالتدريج: يهلك العشب والنبات، ثم الماشية والحلال، ثم يدركهم الهلاك سريعاً. ولا تزال نجد بالذات هذا حالها حتى اليوم، لولا الله عز وجل ثم جهود الدولة المضنية في تحلية مياه البحر ومدَّها لكل أرجاء المملكة. ٭ وُحبَّ الجمال: فإن المطر يجعل الجوَّ جميلاً.. ويجعل النسيم عليلاً.. والطيور تُغرِّد.. والأشجار تزهو بخضرتها جذلاً.. والجفاف يزول.. ورائحة الندى تنفذ إلى الأنوف.. جمال المطر يغذي كل الحواس: اللمس والشم والنظر والسمع.. وهو بالنسبة لنا نحن العرب دهشة لا تبلى.. المطر يعيدنا أطفالاً وإن كُنَّا في السن طاعنين.. يُعيدنا إلى دهشة طفولتنا الأولى.. يُنزعُ حواسنا كلها بالجمال.. يُشعرنا بالإنشراح.. حب العربي للمطر حُبُّ روح وجسد.. فوق هذا فإن قدوم المطر إيذان بالخصب والنماء والربيع، واخضرار الأرض، وأرض نجد خاصة إذا اخضرت وربَّعت من أجمل أراضي الدنيا رائحة ونسيماً وإشراقاً وإيحاءً بالشعر والجمال. وقد تغنى الشعراء العرب بنجد على طول السنين والقرون، وبعضهم لم يرها ولم تطأ قدماه أرضها قط، ولكنها ظلَّت بتاريخها وريح الصَّبا فيها رمزاً للعشق والشعر: ألاَ يا صَبَا نجد متى هجْت منْ نجد لقد زادني مسراك وَجْداً على وَجْد والعرب يحبون رياح الصبا لأنها تجمع السحاب المتفرق وتردُّه على بعض، ويقولون إذا كان السحاب من جهة القبلة ثم ألقحته الجنوب وإذا رأته الشمال كان مطره أجود المطر، ورياح الصبا هي التي تتَّجه من الشرق إلى الغرب كأنما تذهب إلى القبلة، ويُسَمُّون (الصبا) رياح الرحمة، بعكس رياح (الدبور) التي تنفض السحاب وتُقَطِّعُه أباديد، وهي ريح العذاب، ورد في الحديث الشريف: «نُصرتُ بالصَّبا، وأُهلكتْ عاد بالدّبور». ٭٭٭ ويختصر شدة فرح العرب بالمطر وأسبابها قول الراعي النُّميري: وحديُثها كالقطْر يسمعُهُ راعي سنينَ تتابعتْ جَدْبا فأصاخَ يرجو أن يكون حَيَاً ويقولُ من فرح: هيا ربَّا..! ويقول ابن لعبون يدعو بهطول مطر له مواصفات معينة: يا مالْ هطَّال صدوق حقوقهْ مترادف مبناه طاق على طاقْ يفتل ندافَ الطها من طبوقهْ مثل النعام إن ذارها زَولْ تَفَّاقْ ترفي مريضات النسايم فتوقَهْ يشبه كما ليل على الصبح يُنْسَاقْ تفترّ عن مثل الدحاريج موقهْ أربع ليال مدمجات على ساقْ يا مال: أتمنى أن يصيب بلادي هذا المطر. طاق على طاق: طبقة فوق أخرى (سحاب متراكم). ندّاف الطها: نافش القطن (القطان). ترفي: ترقع (أصلها ترفو). مريضات النسايم: رياح الصبا لرقتها. تفترّ: تنفتح وتتحرك.. الدحاريج: الصخور الكبيرة. موقه: عيونه. على ساق: متواصل. يدعو الله عز وجل أن يصيب بلاده غيث صادق متواصل سحابه متراكم وصبُّه عنيف ويستمر أربع ليال متواصلات. ٭٭٭ ومن روائع وصف البرق والسحاب والمطر، في الأدب العربي كله، قولُ عُبيد بن الأبرص: يا مَنْ لبْرْق أَبيتُ الليلَ أَرْقُبُهُ من عارض كبياض الصَّبْح لمَّاح دان مُسفّ فويقَ الأرض هَيْدَبُهُ يكادُ يَدْفَعُهُ مَنْ قامَ بالرَّاح فالتجَّ أعلاهُ ثم ارتجّ اسفلُهُ وضاقَ ذرعاً بَحمْل الماء مُنْصَاح هبَّتْ جنوبٌ بأُولاهُ ومال به أعجازُ مزْن يُسحُّ الماءَ دلاَّح يَنْزعُ جَلْدَ الحصى أجشُّ مبتركٌ كأنَّهُ فاحصٌ أو لاعبٌ داح فَمَنْ بُنْجوته كمَنْ بمُحُفَله والمُسْتكنُّ كمن يمشي بقرَواح فأصبحَ الروضُ والقيعانُ مُمْرعةً من بين مُرْتَفق فيه ومن طاحي فهو يرقب البرق طول الليل مُتَعجِّباً لأنه يلوحُ في بياض السحاب كنور الصباح وهذا السحاب قد أطبق ودنا حتى يكاد يُلْمَسُ براحة اليد، ثم صرخ الرعد فيه (فالتجّ أعلاه) فارتجَ أسفله من زئير الرعد فلم يُطق حَمْلَ الماء الثقيل فانشقّ (منصاح) وهبت رياح الجنوب بأوله فمالت أعجاز المزن الثقيلة لتصبَّ المزيد من المطر صبّاً، حتى إنه لقوته ينزع قويّ الصخر (جَلْد الحصى) ويجعل الذي في الجبل كالذي في المنخفض والسهل، يغمر الجميع، والذي تحت سقف بيته كالذي في العراء، سيلٌ هامّة! ٭٭٭ ويقول راكان بن حثلين: يَتّلُونْ بّراق سَمَر يشعل اشعالْ تلقى (الترابي) فايض عقبْ سيله يقول عن قومه إنهم يتابعون برقاً يشتعل طوال الليل (كأنه ساهر يسامر السحاب)، ولكنْ ما نتيجةُ هذا السَّمَرُ الجميلُ بين البرق والسحاب طول الليل؟ نتيجته سيلْ غزير يفيض بعده وادي (الترابي) الكبير. ٭٭٭ والعرب يُشَبِّهون السحاب بالنعام في الشعر الفصيح والشعبي، ويذكرون السحاب الثقيل الذي ينضم إلى بعضه، وقد صوَّر ذلك شاعرهم بشكل جميل في قوله عن السحب البطيئة: جاءت تَهَادى مشرفاً ذُرَاها تحنُّ أُوَلاها على أُخْرَاها ويصف الأعشى مشي محبوبته هريرة بأنه: مشي السحابة لا ريثٌ ولا عَجلُ! وقد يصفون دمدمة السحاب تحت غضب الرعد، كقول إبراهيم بن جعيثن: يا سحاب بالغضب جا له نزيز فأوله مثل النعام اللي يحازْ (نزيز) دمدمة وهمهمة، ويحازَ: يُدْفَع، شبّه قطع السحاب المتدافعة بأسراب النعام الراكضة. ويشبهون الرعد بصوت الرحى وزئير الأسود وفي الجاهلية يشبهونه بعزيف الشياطين!! وما أبعده عن ذلك ولكنهم يجهلون، قال الله عز وجل: {يُسَبِّحُ الرَّعدُ بحمده والملائكة من خيفته}. ومن أشهر الشعراء الذين يهتمون بالمطر ويعرفون الأرصاد الجوية من النجوم راشد الخلاوي الذي عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وكان عالماً بالنجوم.. ومن صوره المبتكرة في المطر وآثاره: سقى الرضيمهْ من هرفيِّة وقعتْ حَقُوق يعاجل سيلْها المطرا تلقى بها الضبّ والجربوع منجطل على النثيله قد باد الذي حَفَرا..!! فالضببة والجرابيع تنبطح فوق المرتفع (النثيلة) لأنها لم يعد لها بيوت.. خرَّبها السيل! ولأنه عالم فلك في زمانه، يصف مظان المطر في أوقاته ونجومه: إذا ظهرْ نوّ (السمَّاك) ولانشا من المزن ما يملا دعوب المسايلْ وغدا منادي الليل ما ينوحى لهْ وغدوا فتخ الكاسبين النفايلْ فيا لله بتالي (العقربيات) سَيْلَهْ يفرح بها راعي السواني الهزايلْ حمْيم او تالي حَيَا عقربيهْ صدوقَ الحيا يحيي العصورَ الاوايل ٭٭٭ ويقول عنترة بن شداد: أو روضةً أُنُفاً تَضمَّنَ نبتُها غيثٌ قليلُ الدِّمن ليس بمَعْلم جادتْ عليها كُلُّ بكرْ حُرَّة فتركنَ كُلَّ قرارة كالدرهم سَحّاً وتَسْكَاباً فَكُلُّ عشيِّة يجري عليها الماء لم يتصرَّم وخلا الذبابُ بها فليسَ ببَارح غرداً كفعْل الشارب المُتَرنِّم! هزجاً يُحُكُّ ذراعَهُ بذراعه قَدْحَ المُكبِّ على الزناد الأَجذم! روضة أُنُفاً: بكراً لم توطأ من قبل. القرارة: الحفرة. السحّ من المطر: الصب المتواصل، والتسكاب منه هو الصب المتقطع. والأجذم: ناقص اليد. ٭٭٭ وكثير من العرب في القديم والحديث، وحتى زماننا هذا، يميزون السحاب الممطر من غيره، ويتوقعون قوة مطره من عدمها، ويصيبون كثيراً، ويسمى الواحد منهم (المُخَيِّل) ربما لأنه يتخيل مقدار المطر من خلال نظره للسحاب. وقد وُرد في كتاب الأغاني: «خرج أعرابي كفيف ومعه ابنة عم له لرعي غنم لهما، فقال الشيخ: أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك وانظري! فقالت: أراها كأنها ربرب (1) معزى هزلى! فقال: ارعي واحذري!.. ثم مكث ساعة ثم قال: إني لأجد ريح النسيم قد دنا وانظري! قالت: أراها كبطن حمار أصحر (2)!! فقال: ارعي واحذري!.. ثم مكث فقال: إني لأجدُ ريح النسيم فما ترين؟ قالت أراها كما قال الشاعر: دان مُسفُّ فويقَ الأرض هيدبُهُ يكاد يدفعُهُ من قامَ بالراح فصرخ: انجي لا أبالك! فما انقضى كلامه حتى هطلت عليهما السماء! ----------- (1) ربرب: قطيع، تصف السحاب في أوله لم يتراكم. (2) حمار أصحر: بطنه فيه حمرة في غبرة!