يقال إن أحمد بن حنبل حضر مرة وهو متنكِّرٌ مجلس وعظ للحارث المحاسبي، فدس نفسه بين مريدي الحارث وأنصت للشيخ، فغشيته الرقة ودمعت عيناه، ولكنه نهى أصحابه عن حضور مجالس المحاسبي، معللاً ذلك بأن الحديث عن دقائق القلوب وخفايا النفوس، وشهواتها الخفية ورعوناتها بتلك الطريقة المبتكرة التي احتذاها الحارث، بدعة لم يسبق إليها كبار الصحابة ولا أجلاء التابعين، ولو كان ذلك خيراً لسبقوا إليه. إن إشراقات أئمة التصوف وحِكَمهم وتأملاتهم كونت عبر القرون تراثاً ينهل منه الشعراء والأدباء والمفسرون والفقهاء وهم الخصوم التقليديون للمتصوفة، فضلاً عن عامة القُصاص والوعاظ الذين لايبلغون شأو الحسن البصري والجنيد وأبي يزيد والشبلي والحسين بن منصور الحلاج أوعبدالقادر وأبي حامد الغزالي وابن عربي وفريد الدين العطار والنِّفَّري، ويمثل ابنُ رجبٍ الحنبليُ مزيجاً نادراً عُجن فيه المحدث والفقيه والمتصوف في إهاب واحد، ولهذا كان ابن رجب مرتضى ووسيطاً ومُحكَّماً من جميع الطوائف المتخاصمة في فترة كان العالم الإسلامي يعج بالفتن والاضطرابات السياسية والخلافات المذهبية وفساد القضاة والعلماء. إنها تلك اللحظة التي نعى فيها ابن خلدون عصره بأن "لسان الكون قد نادى بالعالم بالانقباض والخمول فبادر بالإجابة". هي فترة طغت فيها وقبلها بقرن تقريباً- حركة التأليف المساعد : المختصرات، والشروح والحواشي والتعليقات، وهي ظاهرة تعكس ضمور الفكر وانحسار الإبداع وبداية الانهيار الثقافي والاجتماعي الذي استمر بالتصاعد، أثناءها كانت هضبة الأناضول تشهد إرهاصات انبعاث العثمانيين الذين سيشكلون لاحقاً أعظم إمبراطورية إسلامية وأطولها عمراً، وهو انبعاث لأمة محاربة لم يرافقه نهضة فكرية وفلسفية تليق به مع أن النخبة العلمية والمثقفة الأولى التي وجدت مكانها في مناصب الخلافة الناشئة في الإفتاء والقضاء والدواوين كانت في غالبيتها من المهاجرين العرب من الحواضر الكبرى في الشام والعراق ومصر. في الآن نفسه كانت الهند المسلمة المغولية تشهد استقبال موجة الأدب الفارسي المهاجر مع صفوة الأدباء والعلماء كالفردوسي وغيره الذين فروا من إيران مع تصاعد القمع الصفوي. وقتها كان وسط الجزيرة العربية ونجد واحات مستضعفة لاتعرف أدباً ولا قلماً ولاعلماً عاشت نهباً لقبائل محتربة تقتتل على بئر ماء ومرعى بهيمة. من ركام تآليف المختصرات الذي استمر مايقارب ستة قرون كان كتاب الغزالي إحياء علوم الدين عرضة للاختصار بدءاً ب(منهاج القاصدين من إحياء علوم الدين) لابن الجوزي الحنبلي، ف(مختصر منهاج القاصدين) لابن قدامة المقدسي الحنبلي، ثم (موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين) للقاسمي الدمشقي وأخيراً (تهذيب موعظة المؤمنين) لمؤلفين مجهولين وُصِفوا بأنهم أساتذة جامعيون! يذكر علي الطنطاوي أن الغزالي هو أحد ستة أعلام كبار كانوا ذوي تأثير كبير في إثراء العربية عبر تاريخ الحضارة الإسلامية وهم الجاحظ وأبوحيان التوحيدي، وعبدالقاهر الجرجاني (دلائل الإعجاز) و(أساس البلاغة )، وأبو حامد الغزالي (إحياء علوم الدين)، وابن عربي الحاتمي (الفتوحات المكية) و(فصوص الحكم)، وابن خلدون( المقدمة). إن لهؤلاء فضلاً كبيراً في ابتكار تعابير ومصطلحات ومفاهيم ومفردات لم تكن معروفة من قبل، أو لم تكن مأهولة الاستعمال، كما ساهموا بنقل كثير من التعابير والمفردات من مجالاتها الضيقة إلى فضاءات أرحب وأوسع سمحت بتداولها خارج السياج المحكم الذي سجنت فيه. ومن دون شك فقد كان للنثر والشعر الصوفي الرفيع تأثير كبير في هذه النقلة، كما نراه جلياً في أشعار ابن عربي والحلاج وإذا سمحنا لأنفسنا بإلحاق حافظ الشيرازي -وحافظ محل جدل ولكنه من المتصوفة القلندرية- ضمن هذه الدائرة وهو قد كتب أشعاره بالفارسية فإن تأثير هؤلاء وشهرتهم إضافة إلى مولانا جلال الدين قد تجاوز حدود الإسلام الثقافية والجغرافية إلى ثقافات العالم الأخرى وقد بقي تراث مولانا ملهماً لأتراك الأناضول وللفرس حتى يومنا هذا. ربما يكون أبو حامد الغزالي بجمعه بين التصوف والفلسفة هو الومضة الأولى للإشراق والعرفان الفارسي الذي شهد ولادته على يد شهاب الدين السهروردي المقتول. ولكن محنة أبي حامد التي جعلته من أكثر الشخصيات الإشكالية في تاريخ الفكر الإسلامي قد انسحبت بظلالها على كتابه الإحياء الذي تناقضت فيه الآراء والفتاوى مابين ممجد للكتاب وذام له، ومقدس له ومضلل لما احتواه. ولأنه قد عَزَّ من يبلغ شأو أبي حامد وصعُب أن يكون هناك تآليف تضاهي سِفره الفريد فإن الفقهاء ومن عزَّ عليهم أن يتعرض هذا الكنز للنسيان أو أن تبقى المعرفة به محصورة في دائرة ضيقة، اختاروا أن يقوموا بخطوة يتوسطون فيها بين من أفتوا بإحراق الكتاب ومن ارتضوه بعجره وبجره. ووجدوا طريقاً ثالثةً باختصاره وتهذيبه وتنقيته-حسب رؤيتهم- من اللوثات العقدية والأحاديث الموضوعة والشطحات المشكلة. ومع أن المختصرات التي ذكرتها آنفاً قد لاتشكل من حجم الكتاب إلاخمسَه أو سدسَه إلا أنها رغم التحرير وإعادة الصياغة كانت تمثل نثراً رفيعاً إذا ماقورنت بالنثر الذي كان يسود القرن السابع والثامن الهجريين حتى بلغ النثر العربي ذروة انحطاطه منذ القرن التاسع الهجري وحتى بدايات القرن الرابع عشر، قبل أن يشهد حركة إحيائية على يد محمد عبده ومحمد كرد علي وأحمد حسن الزيات. وليس غريباً أن يشغل إحياء علوم الدين حيزاً من الجدل الذي كان يجري بين محمد بن عبدالوهاب وخلفائه النجديين وبين خصومهم من علماء الأمصار في الحجاز والشام والعراق. كما أن هناك أكثر من فتوى سئل فيها العلماء النجديون عن إحياء علوم الدين. كان أئمة المساجد في نجد والمنطقة الوسطى يخصصون فترة ماقبل صلاة العشاء وأحياناً بعد صلاة العصر للقراءة في كتب تصلح للعامة، وكان منها مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة. وبعضهم كان يختار كتاب (التوابون) للمؤلف نفسه، وفي سنوات مراهقتي كانت هذه الكتب تنزاح تدريجياً عن المحاريب ويحل مكانها كتاب (موارد الظمآن في دروس الزمان) لمدرس سابق في المعهد العلمي بالرياض. وقد أخذ هذا الكتاب يتضاعف حجمه مع كل طبعة جديدة حتى أصبح الجزء الواحد من أجزائه السبعة يتجاوز سبعمائة صفحة. طبع الكتاب عشرات الطبعات وكان يوزع مجاناً، وكان المؤلف يعمَد مع كل طبعة جديدة إلى إضافة صفحات جديدة يضمنها فقرات رفضت الرقابة نشرها في طبعة سابقة وهي تحتوي تحذيراً من التليفزيون أو الصحف أو إشارة صريحة إلى بعض البرامج التي تذاع أو المسلسلات التليفزيونية. كان مؤلف كتاب(موارد الظمآن) يشترط بمن يقفون على بابه ويتسولون كتبه- التي طبعت وقفاً على نفقة أمير محسن أو رجل أعمال- أن يكون ممن وفر لحيته وقصر ثوبه ولم تظهر عليه أمارة تشي بأنه ليس من المطوِّعة، ولتفادي المواقف المحرجة مع كل طارق لبابه قام بإلصاق ورقة تتضمن المواصفات التي يجب أن تتوافر في الأشخاص الذين يبتغون كتبه، راجياً من زواره عدم إحراجه إن كانوا غير ذلك موضحاً أن عليهم أن يقطعوا الرجاء ولا يسترسلوا بآمالهم الخادعة بأنه ربما يضعف أمام إلحاحهم أو يتراجع. وقد زرته مرة مع صديق لي عام 1409هج، وكان صاحبي قليل شعر العارضين فرفض المؤلف أن يعطيه أي كتاب من مؤلفاته إلا بعد أن وضع كفه على وجه صاحبي وأمر يده على عارضيه وحينما تأكد له بأن الفتى لم يحلق لحيته، تنفس الصعداء وأعطاه سؤله واعتذر له عن سوء ظنه به. ولأن مؤلف الكتاب قد تعرض أسوة بغيره لمد السلفية الحديثية وضغوطها فقد تمسك برفضه بأن يتعرض كتابه للتنقيح أو الاختصار أو تخريج أحاديثه أوتنقيحه من الضعيف والموضوع. وقد كتب هذا التحذير على غلاف كل جزء من أجزاء كتابه. جاء كتاب موارد الظمآن بعد سنوات من تأليف محمد بن عباد النجدي كتابه (دواء القلوب المقرب لحضرة علام الغيوب) في أوائل الثمانينات الهجرية من القرن الماضي، وهو يقع في 450صفحة تقريباً، ولكنه لم ينل الحظوة في محاريب المساجد لأن الكتاب تضمن تحريم أشياء كانت قد أصبحت من واقع الناس ومن ضرورات حياتهم ومنها تحريم الراديو وتعليم اللغة الإنجليزية. قد يكون الاستثناء من بين كل تآليف المعاصرين النجديين كتيب لايتجاوز مئة صفحة بعنوان (عوائق في طريق العبودية) من تأليف عبدالكريم الحميد، أكثر فيه مؤلفه النقول عن ابن القيم وشيخه ابن تيمية، ولكنه أيضاً كان له إشراقاته الخاصة ولمساته التي تثير دهشتك، وهذا قد يعود إلى السنوات الطويلة التي قضاها وهو في رياضة قاسية للنفس وعزلة عن الناس وتأمل وسياحة مع كتب أهل التصوف والسلوك. وهو شيء نادر في عصر يكاد يخلو من هؤلاء. في المكاتب عشرات الكتيبات والرسائل الوعظية الجافة والمباشرة بعبارة شديدة الوطأة، ليست إلا فتاوى أعيد خلقها بمسلاخ رقائق، وفقيهاً يلقي درسه بعباءة واعظ، ومحتسباً يسلخ بعصاه شغاف قلوب معذبة، كذلك القلب الكليم الذي يصفه ابن القيم وهو يتطلع لقراره وسدرة منتهاه : فلما دعا قلبي هواك أجابه فلستُ أراه عن خبائك يبرحُ حرمتُ منائي منك إن كنتُ كاذباً وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرحُ وإن كان شيءٌ في الوجود سواكم يلذ به القلب الجريح ويشرحُ فياضيم قلب قد تعلق غيرَكم ويا رَحمتا مما يجول ويكدحُ