مظفر النواب، لم يكتب قصيدة يذكر فيها اسم العراق، ولا أشار الى مكان فيه، ولكن لايمكن أن نسمي شعرا شديد الصلة بمحليته، مثلما نقول عن شعره. كان السياب، وهو يتهجى اسم العراق في اشعاره، يمسك بعنان الفكرة التي تنصهر في لوعة محلية، لتخرج منها الى أفق لاينحبس في مكان واحد، حيث الشعر شراكة تصل القاريء أينما يكون. أما شعر مظفر العامي، فقد سكن تلافيف الروح التي تقول المكان، وتمسك بلغز عاطفته، وتتناغم معها. فالمحكية الريفية التي لم تكن لهجته، وهو ابن بغداد، شاعت بين المثقفين عندما كتبها مظفر، وعندما جعل من لذّاتها الحسية معبرا لمحكاة الفتنة الكامنة في خطيئة لمساتها العارية، النشوة الجامحة لعذرية البدئي والساذج والمتوحش. النواب اليوم مريض، وهو في وحدة مرضه، ينزوي كي ينتظر أين سيذهب به زورق الرحيل. كان العراق على مبعدة منه، ولكنه لم يزره. خاف ان يصل بغداد وهي على وهن، وهو على ماعليه من ارتعاش. يكتشف مظفر بعد ذلك الوقت، تلك الكلمات التي تبرق في ذاكرة المغادر: يانهران أهلنة، ولن(فإذا) محطتنة محطة جذب (كذب) صاح القطار بليل بيها وماوكف(وقف)، وتغامزن جذبات. ماجانت (كانت) الظنة العمر كله وبالسحج (بالباطل) يكضي (ينقضي)، وليالي بالجماد (البرد) نبات (نبيت الليل). لابد بالسريع (القطار السريع) ألنه (لنا) نصيب ويه العشك، ونحط عذر للي جزانه وفات. يتذكر مظفر قطاره الأول، قطار انتظاره الذي سيجد له عذرا حين يجتازه ولا يقف، فلابد أن يكون له نصيب من العشق في تلك المحطات الباردة. محطات العراق الذي غادرته، مثل عمر المهاجر في بلاد غريبة. مظفر النواب الذي حفظ العراقيون شعره، مثلما تهجّوا عذوبة تلك النبرة التي تفيض رقة في لغة صبايا الهور، أقصى الجنوب المنسي بين مستنقعات تلامس السماء وطيور الخليقة الأولى. اللهجة التي تستخدم أداة التصغير، كي يكون اللفظ على غنج ودلال الطفولة. التنغيم الذي يدّور البيت، ويقلب الحروف ويلعب بها. رياضة التوريات والقفز بين المعاني، وهي تصل حرارة الحب المشاع وفطرته الأولى. خوف ووجل الجسد من اللمس، وكركرات السعادة المختلسة. هكذا يجمع مظفر في سلة شعره ما عز على الشعر الفصيح، فكأنه يولد من نفسه، بلا أسلاف ولا ميراث، لا في اللغة ولا في الصور ولا في التراكيب. فهو لاينتسب الى مدارس المحكي العراقي، ولا يتاثر بفصيح جديده وقديمة. فقد مظفر صوته عندما غادر العراق، فقد نكهته، وهو يخاطب العرب بفصيح عالي النبر، ولكنه استعاد شعره في بضعة قصائد شعبية متناثرة. يكتب واحدة منها في مقهى، ويدفع بها اليّ في صدفة التقيته فيها أول مرة بدمشق. يكتبها مظفر على ورق صقيل، مثلما تعّود ان يكتب، بحروف هي أقرب الى منمنمات، تحيطها رسومه. مو حزن.. لكن حزين مثل ما تنكطع جوا المطر شدة (باقة) ياسمين مو حزن مثل صندوق العرس ينباع خردة عشك من تمضي السنين مثل بلبل كعد (صحا) متأخر لكى (لقي) البستان كلها بلايا (بدون) تين. كان ذلك في النصف الثاني من الثمانينات، ومظفر الأرستقراطي المترفع، تزاحمه صورة المغني الجواب، المغني الذي يجد لذة في التصعلك. يمضي وهالة من المريدين الشباب تحيط به، عالمه الرجولي، لايعكسه شعره العامي، فهو عالم النساء بامتياز. صوت المرأة في جل قصائده، صوت مختلف عما كتبه الكتّاب عنها، فهي ليست امرأة ضعيفة، حتى في القصائد التي تشي بطفولة صوتها وبكارته. انها تغالب لوعة الغرام وتحتال عليه، او تقول السياسية بحسها وكبريائها، وتصف الحبيب وهي تكشف عن مجسات تذوقها ((يا لعابر مينه بليل أزرق/ والشهقة تحطك وتشيلك/ وقلادة مهرك تتشامر/ على الليل نجوم تضويلك)) كانت مرحلة قصائد مظفر تبّشر بثورة الفلاحين، وبنوع من الإجلال للريف وأهواره، التي التجأ اليها الحالمون بانتفاضة على طريقة هوشي منه. ولعل ما كتبه يختلف عن كلام الريف، مع انه يستخدم مفرداته، وإساليبه وايقاعاته، فهو يملك نظرة مثقف يعرف كيف يبتكر التسويات بين مشاغل عالم حديث، وآخر منقطع عن حياة المدن. وبقي جمهوره غير الذي ينطق باسمهم، بل كانت قصائده يتناقلها المثقفون والطلبة من أهل بغداد، والكثير منهم، عشق اللهجة الفلاحية، وحاول معرفتها بعد قراءة تلك القصائد. ولكن من أين لمظفر كل هذا القاموس العامر بلغة الريف ومخيلته، وهو ابن عائلة سمي حي بأكمله ببغداد باسمها؟. يقال أنه كُّلف في عهد قاسم بجمع الشعر الشعبي، ومن تلك التجربة انبثقت قصيدته (الريل وحمد). ولكن الذي يتناقله المقربون منه، انه كان على صلة بالريف وعوالمه، قبل هذا الوقت، وقصيدته الأولى نتاج صحبة شاعرين من الفلاحين، رافقهما طويلا وتعلم منهما الكثير. كان الاثنان يتبادلان الأغاني والأشعار بين جرفي نهر، عندما التقاهما مظفر أول مرة، هكذا تقول الحكاية، والعراقيون يعشقون الحكايات. هو يترك القصص تحوم حوله، ولا يملك التعليق عليها، وعندما يستبد به السهر يغني، ومن النادر أن يبدي رغبة في النقاش. نوع من الترفع الممزوج بتوق الى جلاس ليس بعمره، ولكنهم يحفظون ايماءته ونبر صوته، وسخرية خفية، تغّلف ملامح وجهه الحزين. يخذل المرض مظفر اليوم، ويتناقل محبوه ما كتبه، مقلبين أوراق العراق، علهم يعثرون على بقايا زمن مظفر الجميل.