اليوم، تتراءى لنا الأحداث والوقائع، ذات المنحى السياسي، وهي تحمل لافتات عقائدية، توحى بأنها قد تجردت من كل شيء إلا من العقيدة التي تصبح لافتة وشعارا. ولأن الشعار شيء، والمحرك الذي تفرضه السياسة الزمنية شيء آخر، فقد لا تتضح الصورة للكثير، خاصة الذين اعتادوا النظر إلى كل حدث أو سلوك، بوصفه معبرا عن عقيدة ما. ولهذا كثيرا ما يقعون فريسة ما يرونه من تعارض بين الشعار المعلن، والسلوك الواقعي، فلا يجدون سبيلا إلى حل هذا التناقض الناشئ عن فرضية أن العقيدة تقود السياسة، إلا افتراض الخيانة في أولئك الذين يقفون خلف الأحداث. هذا التناقض، هو تناقض موهوم، لا وجود لها إلا في ذهنية أولئك العقائديين الذين يمارسون التفسير العقائدي في مضمار الوعي السياسي. ويتلاشى هذا التناقض، عندما يتم تفسير الوقائع السياسية بمنطق الوعي السياسي المجرد. لا أنكر أن العقائد تستخدم كثيرا في المضمار السياسي. لكنها ضرورة حشد للمواقف فحسب، وليست هي التي تخلق المواقف ابتداء، ولا تفرضها. الواقع - بتحزباته وشروطه - يفرض أن تستخدم العقائد كانتماءات وتكتلات، يستفيد منها كل طرف في تحقيق الغاية المصلحية لكل تكتل أو انتماء إيديولوجي. وهذا، بقدر ما يؤكد دور العقائد في تحقيق الاصطفاف، بقدر ما يكشف عن حقيقة أن العقيدة أداة في يد هذا الاصطفاف، الذي يستمد وجوده الحقيقي من عالم الواقع، لا من عالم العقائد. ولأن العقائديين الذي يفسرون السياسة بمنطق العقائد، يفترضون ان الغطاء العقائدي سابق على الحدث، فقد وجدوا أنفسهم في مأزق إزاء التعامل مع كثير من أحداث التاريخ. التاريخ يؤكد لنا أن أصحاب العقيدة الواحدة، حتى في أزهى عصورها نقاء، وقعت في الاحتراب الدامي. وهذا الاحتراب لم يقع بين هوامشها، وإنما وقع بين أعظم الشخصيات فيها قداسة، وأشدها تأكيدا على وحدة الانتماء العقدي. عندما كانت الواقعية السياسية توحّد المصالح بمنطقها، لم يكن ثمة عداء أو احتراب، وعندما فرضت هذه الواقعية السياسية تباين المصالح، سلت السيوف، وسالت الدماء، وانحل عقد الانتماء. كيف يفسر العقائدي، احتراب القديسين ؟. هنا يعارض منطق التاريخ ومنطق العقيدة، فيفرض على التاريخ ما لم يكن، ويضيف إلى العقيدة ما لم يكن من أصولها؛ ليحمي عقيدة مجردة في الوعي، ولينزه تاريخا منقوعا بدماء الأبرياء. ولأن هذا إجراء غير منطقي وغير واقعي، يصعب التكتم على زيفه، يجري تحصين العقول ضد الأسئلة، بافتراض عقائدي، يلزم بالسكوت، وتنكيس الرؤوس خضوعا وانقيادا، عند قراءة هذا التاريخ الذي يسكن تلافيف الوعي العام. لا شك أن أشد الناس غرقا في الماضي، هو أشد الناس تشخيصا للراهن بعيون الماضي. ولهذا، ترى اليوم مفردات الاحتراب العقائدي في الماضي، تحضر؛ لتفسر الواقع. نزاع المصالح بين الشرق والغرب، والذي قد يقود إلى نزاع مسلح، يصبح حربا بين المسلمين والصليبيين، وكأننا لا نزال قابعين في القرن العاشر الميلادي. وهكذا - وفقا لهذا المنطق - يصبح النزاع بيننا وبين إسرائيل، نزاعا بين الإسلام واليهودية، بصرف النظر عن مجريات الحدث في الواقع، وتعقيدات الرؤية الغربية لوجود دولة إسرائيل. وكما يحدث هذا التفسير - اللاواقعي واللاتاريخي - في ضوء الاختلاف بين الأديان، ذات المنطق العقائدي المتباين، يحدث ذلك داخل الدين الواحد، بين طوائفه ومذاهبه. بل هو بين طوائف ومذاهب الدين الواحد أقوى؛ لأن النزاع على شرعية الانتماء للعقيدة الأصل، هو موضوع صراع عقائدي دائم، يفترض أن يكون كل سلوك خاضعاً لمنطق عقائدي. كما أن ميدان الصراع - صراع المصالح - هو في الغالب على أرض واحدة، مما يجعل نفوذ احدهما وهيمنته، مقرون بضعف هيمنة الآخر، وتراجع دوره. وهذا ما لا يتوفر - غالبا - في صراع الأديان، إذ تحظى الأديان بمساحات جغرافية، تمكنها من بناء مصالحها بعيدا عن التداخل الجغرافي الواقع بين أبناء الدين الواحد، كما هي الحال في نزاعات الطوائف والمذاهب والأعراق. صياغة الوعي السياسي العام، على أساس التفسير العقائدي، حتى وإن لم يكن الواقع محكوماً بهذا التفسير؛ تجعل الحلول السياسية، لأية إشكالية، مستحيلة؛ لأن التعاطي معها لن يكون بحكم (نسبيات) السياسة، وإنما سيكون بمنطق مطلقات اليقين العقائدي. وحينما تصطرع اليقينيات النهائية واقعيا، يستحيل التوفيق، بينما يسهل التوفيق، عندما يكون هذا الصراع يدار بمرونة السياسة، ذات المنطق النسبي، الذي يفهم أن الحياة أخذ وعطاء. انظر إلى صراعنا الراهن مع إسرائيل. يستحيل الوفاق بين العقائديين من كلا الطرفين. العقائدي العروبي أو الإسلامي، يرى أن كل شبر في فلسطين للمسلمين والعرب، وأن الحل في ملايين اليهود، أن نلقي بهم في البحر. وهذا - في تصوره الدوغمائي - هو الحل الأمثل لهذا الصراع. لكن، وفي المقابل، فالعقائدي الصهيوني، يرى أن كل شبر من فلسطين هو لإسرائيل وحدها، وأن الحل في ملايين الفلسطينيين، أن نلقي بهم في الصحراء، صحراء الأردن، أو صحراء سيناء. وهنا تستحيل الحلول؛ لأن كل طرف يرى الواقع من خلال مبدأ عقائدي صلب، متجاوز للواقع، ومحكوم باليقين الذهني، الذي يرى في تجاوز هذا اليقين نوعا من الكفر والارتداد. هنا، تكمن خطورة التفسير العقائدي الدوغمائي للواقع. فكل حل سياسي، سيصبح خيانة عظمى؛ لأنه يقوم على الفعل في سياق مكونات الواقع الفعلي. وهذا الواقع يفترض النسبيات. ولهذا قام العقائديون الإسلاميون والقوميون بتكفير السادات؛ لأنه اجترأ وتعاطى مع الواقع بمنطق السياسة، وليس بمنطق الدوغما العقائدية. وكل سياسي، سيتعامل مع هذه القضية بمنطق السياسة، سيكون موضوعا للتكفير من العقائديين الإسلاميين واليهود؛ لأنه - بالضرورة - يتضمن التنازل عن شيء من اليقين. بمنطق العقائديين من كلا الطرفين: الإسلامي والإسرائيلي، لا حل يرضي سلامة العقيدة، إلا الحل الذي يتضمن إفناء الطرف الآخر؛ لأن الأرض واحدة، وكلّ يبني عقيدته على امتلاكها التام، فلا بد أن يفنى هذا الطرف؛ لتتحقق مقتضيات عقيدة الطرف الآخر. وهذا هو المستحيل سياسيا وأخلاقيا. ولهذا، لن يتم حل المشكلة على يد هؤلاء، وإنما سيكون الحل - إن حدث - على يد النسبية السياسية؛ إذا منحت فرصة الانعتاق من أسر هؤلاء العقائديين المحلقين في عالم الأوهام، والذين سيبقون مصدر التأزم لدى جميع الأطراف. مأساة الشرق الأوسط، أنه أرض اليقينيات والقطعيات المتناثرة على امتداده الجغرافي وامتداده التاريخي. طبعا، ليست الأزمة في وجودها، وإنما في هيمنتها على الوعي العام، وتحولها إلى أداة للواعي بمجريات الراهن. وما الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية، إلا من نتاج هذا الوعي؛ إذ يمده هذا التفسير التأبيدي بالقابلية للاستمرار. أذكر أن نقاشا سياسيا دار بيني وبين أحد هؤلاء العقائديين، معترضا على آرائي في الوجود الأمريكي في العراق، وعلى توصيفي السياسي لحركة حماس. وفجأة، قال: وجدتها. قلت له ما هي. قال: أنت متناقض في رؤيتك السياسية، أنت بلا مبدأ، أنت - كما توحي بذلك مقالاتك السياسية - مع شيعة العراق، وضد شيعة لبنان، ومع سنة لبنان، وضد سنة العراق. أين المبدأ ؟ هذا تناقض صارخ، يؤكد أنك متذبذب في رؤيتك السياسية. قال هذا، وهو يعتقد أنه وقع على تناقضي. لاحظت أنه يفسر السياسة بمنطق التحزب العقدي الطائفي. وطبعا، وفق هذا التفسير العقائدي، فأنا متناقض غاية التناقض. لكن، أنا لا أفسر السياسة إلا بمنطق السياسة، الذي يفترض التحيز للأكثر تأييداً للوفاق، وللأشد حرصاً على السلام الاجتماعي، وللذي يسير بإحداثيات الواقع نحو خلق منطق الدولة، دولة القانون، وليست دولة الميليشيات. ولهذا، فوفق هذا التفسير - اللاعقائدي - لا تناقض، فقبل سنوات كان الشيعة في العراق مساهمين في العملية الانتخابية، التي تتغيا إقامة دولة ديمقراطية حديثة. بينما كان السنة العرب يحاولون إعاقة هذا المشروع المدني، ويدعمون حركات الإرهاب التي يسمونها: الجهادية. ولهذا كنت مع السياق المدني، وكان شيعيا وكرديا في عمومه. بينما في لبنان، يحدث العكس، فالشيعة في لبنان: حزب الله، مليشيا مسلحة، تحاول الانقضاض على منطق الدولة والقانون، وتقويض المجتمع المدني، وفرض منطق السلاح. التفسير العقائدي للواقع، يفرض على الواقع كثيرا مما هو خارج منطقه ، وقد يتسبب في وقوع كوارث، كان بالإمكان تجنبها. وما السياسة الإيرانية الآن، التي تعتمد المجابهة، وتخلق كثيرا من بؤر الصراع، إلا انعكاس لهذا التفسير العقائدي للسياسة. قد يمكن فهم أن يكون هذا التفسير العقائدي سلوكا للمنابر، أو الحوزات، أو التهويمات الخاصة. لكن، لا يمكن أن يكون نهج مؤسسات سياسية كبرى، يشملها نظام دولة، وتدعمها ترسانة من الدراسات. أمر مروّع، أن يعتقد قائد دولة كبيرة بحجم إيران، أنه سيواجه العالم بثقافة: الاستشهاد. الدمار - في حال استمرار النهج العقائدي في التعاطي مع السياسة - لن يطال العالم الغربي، فالغرب أكبر - بمسافات ضوئية - من أن يتضرر من إيران، وإنما سيكون الدمار بإيران، ودول الجوار الإيراني. ويزداد الأمر سوءاً ؛عندما يكون خيار البناء والنماء مفتوحا، بفعل الوفرة المادية التي تحل الكثير من الأزمات، ولا تضطر السياسي إلى الهروب منها إلى افتعال المواجهات. فرق بين ثقافة الدمار، وثقافة البناء والنماء. والمأساة، عندما يكون الخيار مطروحا، وعلى هذا النحو من الوضوح أيضا، فتجنح الرؤية العقائدية بالسياسي عن فرص تنمية الإنسان، وبناء الأوطان إلى حتمية التخلف والدمار. لم يكن لهذا المنطق العقائدي أن يجد تأييدا والتفافا حوله، لو لم تكن الأرضية الثقافية متخمة بهذا المنطق. لو لم يتم ترويض العقول على أن تنظر إلى الواقع من خلال وقائع التاريخ، وفرضيات العقيدة، لكان بإمكان الواقع أن يتحرك وفق محدداته، لا وفق التهويم الذي يصل حد الغيبوبة التامة عن الواقع. وصدق - أو لا تصدق! - أن في عالمنا الإسلامي المأزوم، يجري تدريس أحاديث الفتن، وشروط الساعة - كعقائد! - ومن ثم، يجري تفسير الواقع والمستقبل في حدود تأويلها. وكأننا لا نتقدم خطوة إلا الأمام، وإلا وهناك من يجذبنا ألف خطوة إلى الوراء.