تهيم الإيديولوجيات - على اختلافها وتنوعها - في التنظير السياسي للواقع، مع أنها - في عمق خطابها - تشتغل على الثابت واليقيني ؛ بينما السياسة عالم متغير ومتجدد ومتنوع. تشتغل على الثابت واليقيني، كجزء من مكونها الأساس، وتشتغل على السياسي المتغير، كموضوع فعل هام. وبين هذا وذاك، تضطرب الرؤى، وتعشى الأبصار. ومن ثم، يتعذر الفعل، وتُحبط الآمال، وتنهار صروح الهوى، ولا تبقى إلا الحسرات تلو الحسرات، على زمن فات، وأمل مات. ليست الإشكالية التي تواجهنا، تكمن في وجود هذا التفسير العقائدي الدوغمائي المطلق واللانهائي، للواقع النسبي المحدود، المتنوع والمتغير، وإنما في كون هذا التفسير، وما يتقاطع معه، هو التفسير الذي تستهلكه الجماهير، وتعتمد عليه في تحديد مواقفها من الأحداث والأشخاص. وكما يقال منذ التجربة الديمقراطية اليونانية الأولى : "الجماهير تشتهي العسل (العسل = الوعود التي تدغدغ الأحلام والآمال، والتأكيد على اليقيني في الوعي العام) والسياسي الناجح في خداعها، وتجييرها لحسابه، هو من يقدم لها هذا العسل". للأسف، ففي عالمينا : العربي والإسلامي، تشتهي الجماهير هذا العسل إلى درجة التخدير والإدمان. من يحاول الحديث عن علاج هذا الإدمان المسكر بالوعود الخرافية، ولو بأقل القليل من العقلانية السياسية ؛ يصبح - في نظر هذه الجماهير المخدرة - عدوا منبوذا ؛ بوصفه عميلا للشرق أو للغرب. بينما يصبح المُروّج لأفيون الخرافة، هو المسلم الصادق، والقومي المناضل، و - حال مقتله على أية صورة - الشهيد !. ليس شرطا أن يكون التفسير العقائدي، تفسيرا يتكئ على الماوراء، حتى يكون متخما بالدوغما. بل قد تكون المذاهب الوضعية ذات الصبغة العقائدية، أشد دغمائية من كثير المذاهب العقائدية ذات البعد الماورائي. ومن يتأمل مسيرة الإيديولوجيا القوموية العربية من بداية خمسينيات القرن العشرين، وإلى أزمة الخليج، يجدها لا تختلف عن الإيديولوجيا الإسلاموية المعاصرة، في حجم الجرعة الدوغمائية التي تتعامل بها مع الواقع الإنساني المتغير !. فن السياسة، بما هو فن التعامل مع الممكن، هو بالضرورة، فن التعامل مع النسبي والمتغير. ليس هناك - في الممارسة السياسية - مبادئ معلقة في الفراغ، وإنما هي مبادئ - إن وجدت - مشروطة بسياق الشرط الواقعي. ليست هذه ميكافيللية، مع أني لست ضدها ؛ عندما تتحدد في سياقها الخاص. وفرنسيس بيكون اعتبر ميكافيللي من أعظم المفكرين ؛ لأنه نقل التنظير السياسي، من قراءة ما يجب أن يكون، إلى قراءة ما هو كائن بالفعل. وقراءة ما هو كائن بالفعل، وشروط كينونته وصيرورته، هو ما نحتاجه اليوم، في مجابهة تجاهل الواقع، والقفز في المجهول، على مستوى التنظير الذي يستهلك وعي الجماهير. كثيراً ما يتساءل الجماهيري : لماذا هذا الفشل الدائم، ولماذا هذا التأزم الممكن، في الشرق الأوسط خاصة. وطبعا، تأتي الإجابة - دائما - بالإحالة على الواقع السياسي، الذي يتم تصويره بأنه السبب الأول والأخير لهذا الفشل، لا لشيء ؛ إلا لأنه يأبى الاستجابة لمنطق الدوغما التي تتصور أن ما تخلقه في وعي جماهيرها، يتخلّق - تلقائيا - في الواقع. ليس هذا دفاعا ولا تبريرا، لأي سلوك سياسي، وإنما هو محاولة لقراءته من حيث هو موجود، كحالة تاريخية، لا تأتي من فراغ. لماذا لا يكون السلوك السياسي الذي يرفض من قبل الجماهير، بقوة تأثير وهيمنة الدوغمائيات القومية أو الأصولية، نتيجة لفشل تاريخي طويل، لا يستطيع السلوك السياسي إلا أن يرتبط بشرطه المادي ؟. هذا سؤال لا تطرحه الإيديولوجيات الصاخبة، التي تحاول تغييب الجماهير عن شرط الإمكان الواقعي ؛ لأنها لو طرحت هذا السؤال، فلا بد أن تبدأ الإجابة عليه من عمق التاريخ، ومن محاسبة الأنا، في أشد أحلامها نقاء. لو طرح هذا السؤال، فإنه لن يتمحور السؤال عن ما يحدث، ولمَ يحدث. وإنما سينكفئ السؤال راجعا ؛ ليسأل عن السياق التاريخي الذي أوصلنا لهذه الحال، هذه الحال التي تشترط - بحكم قوة شروط الواقع المتعين، لا قوة المأمول نظريا - أن يحدث ما يحدث، سواء جزعنا أم صبرنا. طبعا، ليس الإنسان مجردا من الإرادة الحرة، ولا هو خاضع لقدر التاريخ. ولكنه - في المقابل - ليس متحررا من شرطه الواقعي، ولا يملك من حرية الفعل، إلا ما هو حرية مشروطة بهذا الواقع. إن تحرره الحقيقي، لا يكمن في النفي الذهني لهذا الواقع، بتجاهله، وإنما بإدراكه تمام الإدراك، على نحو ما هو كائن، وليس على ما يجب أن يكون، ومن ثم، محاولة تطويعه - بقوة الإبداع المشروط بإمكانيات الواقع - لصناعة واقع أفضل. على هذا الأساس، هناك فرق بين التفسير العقائدي الثابت، الذي يضع النتائج قبل البحث، والتفسير السياسي الخالص، الذي يفسر الأشياء كما هي عليه في الواقع المتعين، وليس كما هي عليه في الواقع المتخيل. والتأزم الذي يتشظى بأنواع التأزمات، يأتي ؛ عندما يتم تقديم رؤية سياسية (سياسية، كما يتصورها دعاتها !) لهذا الواقع، بواسطة التفسير العقائدي، أيا كانت مرجعية هذه العقائد. فصحتها - في أصلها - أو عدم صحتها، لا تؤثر في كونها - بلا نهائيتها ودوغمائيتها ونتائجها المسبقة - حجبا للواقع، وتجاوزا له، ومحاولة باسلة - حد الموت - لتحويله إلى ما يتوافق وفرضيات المخيال. وهي فرضيات عابرة للزمان والمكان، أي لأهم شرطين، يستحيل الوعي السياسي بدونهما. الإيديولوجيات تتنوع، بل وتختلف، بل وتتصادم وتتناحر. وحزمة الدوغما التي تحملها كل إيديولوجية، تفترض رؤية للواقع تختلف - جذريا - عن الرؤية التي تقدمها الإيديولوجيا النقيض. هي تختلف، لأنها تحتكم - في تفسيرها للواقع - إلى تصور ماورائي، خارج نطاق المحسوس، و - في الغالب - خارج نطاق المعقول. وهذا البعد عن الواقع المتعين الذي يشد الوعي إليه، هو بعد عن فرص الالتقاء حول تفاسير متقاربة، تفرض مساحات المحسوس - الذي يبعث على المباشرة، ومن ثم على نوع من التوافق - مساحات من المشترك في الرؤية والتفسير. بينما تتباين الإيديولوجيات، وخاصة في أبعادها الماورائية التي تتحدد طبيعة تفسير الواقع، تتقارب الرؤى السياسية الموضوعية (موضوعية نسبية بطبيعة الحال) في معاينتها للواقع المتعين. الرؤى السياسية التي تفهم الشرط الواقعي، وتتعامل معه، كما هو، تحتكم إلى شيء محسوس، ووقائع مشاهدة، يمكن فرزها وتحليلها، ومن حيث هي وجود مرتبط بأسباب واقعية، وقوانين اجتماعية، لا تخترق، حتى بقوة المعجزات. المعجزات - بأنواعها - والتي يتم تقديم الوعود الطوباوية للجماهير المخدرة بافتراض قدرتها - أي المعجزات - على القفز على شروط الواقع، هي ليس أكثر من خرافة في التفسير السياسي المشدود إلى عالم الواقع والوقائع والأشياء. هكذا نفهم، لماذا يعجز الوعي الجماهيري عن فهم ما يجري حوله. إن التفسير المقدم له، ليس تفسيرا للواقع بمنطق الواقع، وإنما هو تفسير للواقع بمنطق العقائد المشدودة - بطبيعتها - إلى الماوراء. ولهذا تتساءل هذه الجماهير منذ أكثر من قرن عن سبب بقاء واقعها على ما هو عليه من تخلف وانحطاط، بينما هي - بوحي التفسير العقائدي - له الحق في التقدم والازدهار، وأن تكون أفضل الأمم، وتشيد أعظم الحضارات. هذه الجماهير، تشد على أسنانها غيظا، لماذا لا يستجيب الواقع لفرضيات الوعود العقائدية التي تم شحنها بها ؟!. هي - بمنطق الفرضية العقائدية - الأفضل دائما، فلماذا هي الأسوأ دائما ؟!. كل مفردة من مفردات إيديولوجياتها الصاخبة، تعدها - على نحو حاسم ويقيني - بالنصر، فلماذا هي لا تزال منذ قرون في مستنقع الهزائم ؟!. لماذا يتأبّى هذا الواقع عليها، وتتعسر ولادة الأمل، وهي قد قدمت كل شروط الإيمان ؟ !. إنها تصرخ من أعمق أعماقها : لماذا لا تتحقق المعجزات التي تلغي كل شروط الواقع؟ واضح أن المعجزات لا تتحقق، ولن تتحقق، لا لشيء، إلا لأن الواقع لا يعرف المعجزات، وإن عرفها - مجازا - فهو لا يقدمها للحالمين بوحي المنطق العقائدي، وإنما يقدمها للعاملين وفق شروطه، القادرين على التحكم - بعد الفهم - بمنطقه الخاص. ومن لا يفهم هذا الشروط تمام الفهم، ومن لا يتعامل معها - أحب أو كره - كما هي عليه، فلن يظفر إلا بمثل هذا الانتحار البطيء، الذي تمارسه الجماهير المخدرة في عالمينا : العربي والإسلامي. كثيرا ما أقرأ وأسمع عن وعود يقدمها العقائديون، وعود تعد بسقوط الغرب وتلاشيه، أو بنهاية قريبة لإسرائيل. وعندما تحاول أن تجد مبررات من الواقع، توجب مثل هذه الوعود، لا تجد إلا محض أماني عقائدية، يقف الواقع - بكل مكوناته - ضدها. بل عندما تتساءل على نحو مباشر وصريح، عن المؤشرات الواقعية التي يمكن أن توحي بشيء من هذه الوعود، لا تجد إلا أن هذا لا بد أن يقع ؛ لأننا الأفضل والأكمل، فلا بد أن يكون التقدم لنا، والتأخر لغيرنا. كيف يستمرون في التقدم علينا، وتركنا في آخر القائمة، ونحن الذين يفترض - عقائديا - أن نكون في أول القائمة. وهكذا يصبح الافتراض والحلم، اللذان لا حجر عليهما كفرضيات وأحلام، حقائق لا بد أن تتحقق !. يحكي محمد حسنين هيكل - وهو أقرب إلى الصدق فيما سوى الشأن الخليجي - في كتابه: (المقالات اليابانية) أن أحد الزعماء، كان غاضبا من الحصار المفروض على بلاده وكان يقول لهيكل، لماذا لا تفك الدول العربية الحصار، رغما عن الأممالمتحدة. وعندما قال له هيكل : إن أي دولة تخترق الحصار ستتعرض هي للحصار، أجاب الزعيم : ولماذا لا يتعرضون هم الآخرون (يقصد : الغرب) للحصار.. هل هم أحسن من بلادنا ؟. لا يمكن أن يكذب هيكل - كعادته في الكذب - على هذا الزعيم، فهو ليس خليجيا ليكون محل عدائه، فضلا عن كونه شريكا له في الهوس الناصري الأرعن. ومن ثم، فهذه ليست نكته سياسية، وإنما هي واقعة، تعكس طبيعة التفسير العقائدي المتجاوز للواقع، وأنه لا يختص بنوع واحد من العقائد، بل هو منطق عام، يمارسه التفسير العقائدي تحت ضغط ما وراء ما، بصرف النظر عن مرجعية هذا الماوراء. العقيدة هنا، التي يتم التعاطي مع السياسة - كممارسة واقعية - بواسطتها، هي العقيدة الوطنية. لاحظ قوله : "هل هم أحسن من بلده ؟ ". في عقيدة كل مواطن، أن بلده أحسن البلدان. هذه عقيدة، لا ضير من التلبس بها، بل قد تكون مؤشرا على عمق الانتماء. لكن، أن يتم التعامل مع وقائع السياسة وشروطها الموضوعية، وفق هذه العقيدة، فكارثة، قد تنتهي بالدمار. من حقه أن يرى بلاده أحسن من كل بلاد الدنيا، حتى وإن كان الواقع الفعلي أن خمسة وتسعين بالمائة من بلدان العالم أحسن منها. هذا من حقه ؛ كإيمان بماوراء الواقع، لكن ليس من حقه أن تكون فاعليته السياسية وفق هذا النسق العقائدي ؛ لكون الفاعلية السياسية فعلا متعديا، يتضمن ضرورة التفاعل مع الآخرين، وهو التفاعل الذي لا بد أن يرتد إيجابا أو سلبا على الذات. ليس من حقه أن يتسيس بهذه العقيدة الماوراء واقعية، وإلا وقع في صناعة كارثة، وهو ما حدث ويحدث بالفعل. هناك عقيدة، كما رأينا عند الزعيم، وهناك واقع فعلي، وهو أن العالم حاصر بلاده ولم تخرج من الحصار إلا بعد أن رضخت - بمهانة - لكل شروط الواقع الدولي. لن يغير الواقع أن تؤمن أنك الأفضل، وإنما الذي يغير الواقع أن تسعى لتكون الأفضل، وفق شروط هذا الواقع، وليس باستجداء المعجزات. لكن، يبقى العقائدي خارج سياق الواقع، يتصور - في غيبوبة تامة - أن ما يعتقده، هو - بالضرورة - الواقع. إن التفسير العقائدي نسق فكري، قد يطغى، فيَصِلَ إلى درجة التهريج. فالقائد - من حيث هو عقائدي خالص - مستمر في هذا النهج من قراءة الواقع والتعليق عليه. ولهذا، فعندما وقع زلزال كبير في اليابان، وبدل أن يتألم للفاجعة على نحو إنساني، تبرع بالتصريح، بأن هذا الزلزال عقاب من الله لليابان على تحالفها مع أمريكا. إذن، ما دامت أمريكا تمارس العداء ضده، وما دام هو - يقينا عقائديا - في جانب الله، فإن الله سينتصر لوليه، ليس بعقاب أمريكا ذاتها، بل بعقاب حلفائها، لعلهم أن يعودوا، فيتحالفوا معه، بدل التحالف الخاسر مع أمريكا. وطبعا، لا مكان للتساؤل في مثل هذا التفسير العقائدي : لماذا لم يقع الزلزال في أمريكا ذاتها، أو لماذا لم يقع في بريطانيا ؟!. لماذا يقع الزلزال في أرض زلزالية منذ الأزل، يضربها الزلزال في صورة شبه دورية، ولا يقع حيث لا زلازل في بريطانيا وأمريكا ؟ !. التفسير العقائدي قديم جدا، وهو ملازم جدا للإنسان البدائي، الذي يغرق في أحلامه وأمانيه، لجهله بالواقع، أو لهروبه منه بتجاهله. قديما، كان الشاعر الجاهلي : عمرو بن كلثوم التغلبي، على هذا النحو من الإيمان العقائدي، ولكن هذه المرة كان الإيمان بالقبيلة: (تغلب). ولهذا قال في معلقته : لنا الدنيا ومن أمسى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا يقول هذا، بينما ابن عمه، الشاعر الآخر : الحارث بن حلّزة، يحكي في معلقته، أن ثمانين فارسا من بني تميم هاجموا قبيلة تغلب، وهزموهم، ونهبوا الأموال والنساء. فرق هائل بين ما يعتقده الشاعر : عمرو بن كلثوم، في قبيلته التي يتصورها تحكم العالم، ويضيق عنها البر والبحر، وبين واقع القبيلة المتواضع، الذي لا يصمد لثمانين فارسا. ومع هذا بقي عمرو بن كلثوم أعقل من معاصرينا من العقائديين الذين يريدون غزو العالم، بينما لم يتهور عمرو بن كلثوم، فيهاجم فارس أو الروم، وإنما قنع بقطيع من الإبل، يسد غائلة الجوع والظمأ، وقصيدة تعلق على أستار الكعبة، فتمنحها المجد الأدبي، كبديل موضوعي لمجد واقعي، مفلت من قبضة الأماني، وهارب من مصيدة الأحلام.