تأتي رواية (جاهلية) للمبدعة ليلى الجهني في خضم إنتاج روائي محلي غزير تدفق خلال العامين المنصرمين ( / 20082006)، ومع هذا الدفق السردي إلا أن (جاهلية) لها ميزة عن غيرها، برؤية مغايرة، وبناء جمالي إبداعي. وسأتداخل معها ثقافياً وجمالياً. وأبدأ بالقراءة الثقافية. الرواية تقوم على قضية محورية ذات بعد ثقافي بنيوي، ودلالة ثقافية مقصودة، لها أهمية في بناء الرواية وتوجيه أحداثها وفضاءاتها، وهي قضية الإنسان الآخر، ذي البشرة السوداء. دلالة ثقافية تجعل الرواية تحلق خارج سرب النسق الثقافي الجمعي؛ وذلك باستحضار ذات تقبع خارج حدود ذات ثقافة المجتمع المتأصلة، القائمة على الإقصاء وإسقاط العيب والتشويه المعرفي لهذه الذات الأخرى، من فئة السود. فتحضره الساردة في الحقل الروائي، مدافعة عن حقه، محاولة منها خلخلة الثقافية الضدية نحو هذا الآخر. كما أنها تحاول اختراق المتخيل الثقافي (الواقعي) وسلطته ونفوذه، الآمر بالاستبعاد والاضطهاد لهذا الأسود. بل تمادت (جاهلية) لتخترق المتخيل الثقافي التخييلي (سرد، شعر)؛ إذ ساهم هذا المتخيل التراثي الإبداعي، قديماً، في تعزيز هذا العرف الثقافي واستجلابه وإعادة إنتاجه داخل حقلها التخييلي، من أمثال (سيرة عنترة بن شداد، سيرة بني هلال، ألف ليلة وليلة...)، عندما تحول السرد والسارد والمؤلف إلى أدوات تزرع سلطة التأريخ والمجتمع في هذه الحقول السردية. فتأتي جاهلية لتقتحم هذا الطوق المؤسسي (الواقعي والتخييلي) ومدوانته الجمعية؛ محاولة منها تكسير مجاديف هذه السلطات (السرد السارد المؤلف المجتمع، السياق المحلي، اللحظة التاريخية) لتبقى المؤلفة والساردة خارج نسق هذه السلطات، وتظل سلطة المجتمع واللحظة التاريخية هي محور الصراع والانفصال أمام الآخر / السود. فالمؤلفة اختارت أن تنحاز للأسود أمام المخيلة الجمعية، ونجحت - كما يقول نادر كاظم - في التسرب من تحت أعين حراس المتخيل لتسعى من أجل نقض تلك النظرة، وتلك الصورة النمطية عن السودان. (جاهلية) إنه عنوان / عتبة لا يتجاوز كلمة واحدة، إلا أنه يماثل في الدلالة الجملة الكبرى المركبة، التي تكوِّن بنية النص السردي كله، فيمكننا أن نقول : دلالة العنوان = دلالة النص كله. فهو جامع ما بين النص الأصلي والنص الموازي الفرعي، المتمثل في استحضار الحدث التاريخي السياسي القريب، الحرب على العراق، والحدث الثقافي الاجتماعي القريب، والبعيد من خلال التفاعل النصي لنصوص متعددة، تاريخ، وآداب، وسير. (وسيأتي الحديث عن ذلك في القراءة الجمالية). يتكون هذا المحور ويتخلق من خلال قصة حب تشبك أواصر الرواية وأوردتها، قصة حب بين لين ومالك، حب يجمع بين متضادين، بين الذات والموضوع، والرابط بينهما الرغبة في الاتصال والتواصل. ولم ينشأ هذا الحب فجأة، بل جاء هادئاً لذيذاً، وذلك بعد أن اخترقت لين السياج المقدس الذي سيجته السلطة الثقافية الجمعية منذ آلاف السنين؛ لتؤكد لين على أنها فتاة مختلفة في الرؤية والفعل. بعد الاختراق للسياج المقدس لم يبق أمامها إلا السياج الشفيف المربك لفكرة التواصل معه بطريقة خاصة " وقفت هي ومالك وقد انتصب بينهما هذا السياج الشفاف. بسط يده فبسطت يدها من الجهة المقابلة، ولم يكن هناك دفء... طفقت توسع الثغرة قليلاً قليلاً، وبهدوء وحذر، حتى استطاعت العبور إليه ولمسه " ص : 77.(مالك) من سلالة من أتوا قديماً استجابة لنداء الرحمن، ثم استقروا في المدينةالمنورة. وأول جرح سحقه بسبب لونه كان في المدرسة، في المرحلة المتوسطة، عندما سخر منه أحد المعلمين لتفوقه واجتهاده. وهنا يبرز نسق من أنساق الثقافة القهرية في تغذية عقدة النقص عند المقهور وتنمية الشعور بالعجز، وإنبات مظاهر اليأس الباكر في ذاته، حتى يظل على استكانته وتبعيته، ومن أجل ألا يحاول اتخاذ زمام المبادرة في تقرير مصيره بنفسه. ولتعدد المواقف الجارحة له يحاول نسيان تلك المواقف. تغوص الساردة في داخل أعماقه " كف عن أن يتألم، كف عن أن ينظر إلى الأمر كما لو كان حربه الشخصية، كف حتى عن أن يتأذى من كلمة بذيئة قد يطلقها رجل عبر نافذة سيارته غاضباً منه؛ لأنه أبطأ عندما أعطت إشارة المرور ضوءا برتقالياً : (لعنة الله عليك يا الكور) (الشرهة على اللي مسكك سيارة يا العبد). كل هذه النعوت (الكور / العبد / التكروني / الكويحة) لم تعد مؤذية مثلما كانت من قبل أعوام مضت، حين كانت فكرة العدالة الجميلة تتقد في أعماقه " ص : 143.أيس من العدالة فأصبح عاجزاً عن دفع الظلم عن نفسه، النفسي والجسدي، لأنه أيقن بأن هناك انعداماً بين قوته وقوة الظواهر التي يتعامل معها، لذا فهو غالباً يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره. وبذلك يفقد موقفه العام من الحياة ومعناها الفاعل ذي الطابع التغييري الفعال، ويقع فريسة أسلوب التوقع والانتظار، والتلقي الفاتر لما يحدث. ومن أجل هذا القليل لحيز العدالة، نمت في ذاته فرصة نيل الجنسية السعودية، الذي يسميه ب(صك غفران)، فجمّع أوراقه المثبة أنه وأمه قد ولدا في مدينة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ذهب لوزارة الداخلية، فيصاب بصدمة؛ لأنه ليس لديه واسطة، أو أنه يعرف يلعب كورة ! صدمة تكشف عن مدى ضعف هذا النسق الاجتماعي، وعدم أصالته؛ إذ مجرد واسطة من مسؤول كبير، أو لإجادته استخدام عقله في قدميه يستطيع اختراق السياج المقدس !. إنه تناقض، ونسق مضمر مختبئ في أوردة الثقافة المؤسسية. وتتجدد معاناة مالك مع لونه الأسود بعد حبه للين (البطلة)، التي بادلته حبا بحب؛ لأنها مختلفة وهو تنبه باكراً لهذا الاختلاف، وتتعذب لين؛ لضغط المجتمع وثقافته عليها ومالك، ولنظرة الموروث الاجتماعي ومتخيله عن الأفراد السود، وتتعذب كثيراً؛ لأنها كانت تعتقد بأنها قادرة على التحكم في مصيرها بزواجها من مالك، لتحدث وإياه انقلاباً فريداً على أعراف المجتمع ذات السياج المقدس، لكن لين أدركت متأخرة أن الأمر " لا يتعلق بالحب، بل بالطريقة التي نظر وسينظر بها الناس من حولها إلى هذا الحب، الطريقة التي سيتعامل بها الناس في بلادها مع حب مزق الغشاء الشفاف الذي نُصب كسياج واق بين الألوان والأجناس والأعراق، عندما يتعلق الأمر بالحب والزواج " ص : 77.وهذا الإصرار منها حرك مالكاً ليخطو خطوة نحو الانقلاب على هذا النسق فيتقدم لخطبتها من أبيها، وهنا تتجلى أوضح صورة للقهر، إلا أنه يصمد حباً في لين، التي علمه حبها نبذ العنصرية وأمراضها، وطهره من أدرانه وطباعه المتوحشة، حباً أيقظ فيه الحياة، وجعله لأول مرة ينتبه للونه الأسود، وينظر إليه نظرة مختلفة. ويرفض أبوها، وتحزن لين؛ لأنها لم تقدر رفض أبيها حق قدره؛ إذ ظلت تظن " أن الناس ستضج قليلاً، ثم ينشغل كل امرئ بحياته، لكنها مخطئة، لأنها ستظل تحت أنظارهم طوال الوقت، وسيمرضها فضولهم وتلميحاتهم السمجة القذرة أحياناً. وسيمر أكثر أن ترى كيف سيتعاملون مع أطفالها " ص : 132.وتحسم قضية الاتصال من عدمها بين لين ومالك، في المتخيل الروائي والاجتماعي، باعتداء أخيها هاشم على مالك، بمساعدة صديق له، ضرباً وركلاً حتى أغمي عليه. وتجن لين خوفاً على مالك، إلا أنه لم يمت؛ إذ قاوم الموت وصارعه، وهذه المقاومة من مالك للموت وتحديه له هو نوع من المقاومة لهذه المخيلة الثقافية المهيمنة، التي أرادت أن تلغيه، فهو قلب، من الناحية النفسية الذاتية البحتة، معادلة التسلط أو الرضوخ وانتصر على ذاته، مما يتيح له الانتصار على قوى القهر فيما بعد. واعتداء هاشم على مالك كمن ينفذ عقاباً أقره النسق الثقافي الاجتماعي، متناسياً هذا النسقُ المنفذَ، هاشم، أنه هو نفسه يخترق أعمق نسقٍ من النسق الذي أراد مالك أن يخترقه، ألا وهو عبثه ببنات وطنه واغتصابهن. وتأتي دلالة اسمه (مالك) تحمل علامة بنائية لسانية تتجاوز العلامة الأولية له داخل الحقل الروائي؛ إذ هي متناسقة ومقاومته للقهر، فهو مالك لنفسه، ومالك لقلب لين ويحبها بصدق، وهو حر يقود روحه بكل ثقة، رغم تشويش النسق الاجتماعي لهذه الثقة. وفي هذا التعامل مع الآخر في هذه الرواية نقترب منه كثيراً من خلال رؤية (غريماس) الذي يختزل شخصيات العمل السردي في ثلاث مجموعات من الفواعل العاملية المحركة للبنية السردية، التي يتشظى منها ست شخصيات عاملة. ويسميه اصطلاحا ب(بنية المعنى) : ويعمق غريماس دلالة هذه المجموعات البنيوية بربطها بثلاثة دوافع أو محاور تعتبر هي المحركات للقص محور الرغبة : فعلاقة الذات بالموضوع يحكمها دافع الرغبة في امتلاك شيء أو الحصول على شيء. فلين (الذات) ومالك (الموضوع). ويتدخل التوتر كثيراً في هذه العلاقة، مما ينشأ عنه تبادل في الأدوار، فيصبح مالك هو الذات ولين هي الموضوع. وهذا ما يسميه (توماتشفسكي) بالتحفيز الإيجابي، الداخل في حقل (تحفيز الأنماط الفعلية). ومحور الاتصال والانفصال : الذي يحكم علاقة المرسل والمرسل إليه، وعلاقة التواصل بينهما تمر عبر العلاقة بين الذات والموضوع (لين، مالك)، وكذلك الشخصية المساعدة. فلين ترغب في الاتصال بمالك على أي وضع كانت حاله، فلا تنظر إلى لونه أو وضعه الاجتماعي بل إلى ما خلف اللون الأسود والوضع الاجتماعي، مالك يريدها لأنها مختلفة، ولديها رؤية مختلفة عن رؤية ثقافة المجتمع ومخيلته نحوه. ولذا فهذا المحور هو مدار الرواية، فهو يتكرر في غير مشهد بأشكال مختلفة وزوايا متعددة، وعليه تنغلق الرواية، أي يحسم نهاية الرواية، التي انتهت بالانفصال بقوة النسق الاجتماعي الثقافي. محور الصراع : صراع الذات والموضوع مع المناوئ؛ صراع (لين، مالك) من أجل الاتصال، ومعهما المساند - نموذجه هنا الأب، وإن كانت مساندته محدودة، تمثلت في السماح لهما بالاتصال والتواصل الأولي، والذي اتفق مع مالك على أن لين فتاة مختلفة عن غيرها - صراعهما مع المجتمع الصغير وثقافته (هاشم)، والمجتمع الكبير؛ ثقافته وأعرافه ومخيلته المتوارثة عن الآخر / الأسود. وأخوها هاشم يجسد صورة (سي السيد) في أوضح صورها؛ إذ يمارس عبثه مع الأخريات، وبالمقابل يأكله الشك على أخته بأن لها حبيباً تخرج معه، ويرى أنها عثرة أمام استمتاعه بالنساء. وهذا الشك يكشف عن نسق ثقافي متجذر في الثقافة الذكورية العالمية، ثقافة تحصر جسد المرأة في لغة واحدة، لغة تحمل إشارات الإثارة الشبقية لهم وحسب. فإذا كانت زوجة، أو أختا أوبنتا فإن جسدها خائن وماكر، ويحمل دناءة؛ لذا فهو ذو حساسية مفرطة نحو جسد نساء أهل بيته، ويقاتل للحفاظ عليه، بينما يريد من الآخرين أن يغفلوا عن محاولاته لتصيد نسائهم والعبث بهن. مما يعني - كما يرى الغذامي - أن الثقافة تحرم المرأة من حقها، وتحصره في حقل دلالي واحد، لا يغادره ولا يخرج عنه إلا إلى متاهات الإقصاء والإلغاء. (ثقافة الوهم : 83) و(هاشم) جبل صنعته ثقافة المجتمع؛ لأنه هو الرجل الثاني في هرم الأسرة العربية، ويقوم بتبادل الأدوار مع الأب - غالبا- في قيادة الأسرة؛ لتؤكد الكاتبة بذلك على استمرار هذه السلطة بالانتقال من جيل إلى آخر، عن طريق التنشيءة الاجتماعية الأبوية، الذي يقوم المجتمع بتجديد هذه السلطة، حتى لا يمكن الاستغناء عنها، مثلما لا يمكن الاستغناء عن العائلة !. وشخصية هذا الأخ شخصية رئيسية مؤثرة في السياق الروائي، المتكئ على تقانة التقرير السردي للأفكار في استنطاق ثقافة هذا الأخ الذكورية، ونسقه الاجتماعي، وكيف يفكر بازدواجية تؤكد أنه رجل متسلط غير رحيم. وتأتي دلالة اسمه " هاشم " تحمل دلالة بنائية متعاضدة و نسقه داخل الرواية وخارجه، فهو هشيم، ضعيف. كما جاء في اللغة - أيضاً - أن من علامات " هاشم " أنه الجبل الرخو (المعجم الوسيط. مادة هشَمَ). وهذه العلامة متناسقة وموقع الشخصية " هاشم " مع أخته، خصوصاً، فهو جبل إلا أنه هش رخو أمام أخته؛ لأنها في الواقع " أقوى منه. عليه أن يعترف بهذا على الأقل. عندما ينظر إليها غاضباً لا تفعل شيئاً غير أن تبتسم بهدوء ثم تعود لما كانت تفعله. كم يذبحه هدوؤها ! " ص : 17.إن مشكلة أي منجز سردي عندما ينضم للنسق المضاد - في هذا الموضوع تحديداً، مثل جاهلية، ومثله في النتاج المحلي " ميمونة" لمحمود تراوري، مع اختلاف في الرؤية والبناء بينهما - إن هذا الانضمام للنسق المضاد يعرضه للوقوع في شرك إعادة إنتاج هذا النسق المضاد نفسه، الذي أراد المبدع أن يحطمه ويخترقه، فيشارك، بلا وعي، في تعزيز هذا الموقف غير الإنساني أمام السود؛ لأن النسق المهمين المتكون من الثقافي التخييلي - أول إنتاجه في التراث - من أهم ملامحه أنه مجهول المؤلف الفرد، مما جعله ثقافة جمعية، وهي حيلة سردية ماكرة لتكريس الثقافية الانتقاصية للآخر الأسود. ويبقى المتلقي هو الفيصل في ذلك؛ إذ هو وقدراته الثقافية الموازية لثقافة النص القادران على تلمس نجاة هذا المنجز من الوقوع في الشرك من عدمه، تصريحاً أو تأويلاً.