بالأمس، عندما وطئت قدماي أرض جامعتي القديمة التي تخرّجت منها قبل أكثر من عشرين عامًا، غُمرت بموجة من الحنين والعواطف الجيَّاشة. تذكّرت حينها خطواتي المرتعشة بين ذلك الهيكل العريق للمعرفة أشبه برحلة عبر الزَّمن، تعيدني إلى تلك الأيام التي كنت فيها متوتِّرًا قبل اختبار، أو ساعيًا لتحصيل مذكّرة مادة من أحدهم أو مفعمًا بالفرح عند سماع نتيجة، أو غارقًا في حديث طويل مع زملائي في ممرّاتها الطويلة. كل ركن فيها ينبض بذكرى عزيزة، وكل زاوية تحكي قصة من قصص حياتي. استقبلتني الجامعة بمرافقها المعهودة، من مداخل وطرقات وجسور مشاة، والممرات الفاصلة بين الكليات، كانت المعالم ذاتها، لكن بوجوه أخرى. كانت تلك الأيام مليئة بالصخب والضحك والدموع. مقاعد الدراسة التي شهدت جدِّنا وتحضيرنا، أصبحت كالأصدقاء القدامى، تحمل في طياتها أسرار الليالي الطوال التي قضيناها نراجع فيها الدروس ونخطط للمستقبل. كانت الصفوف تكتظ بأحلامنا، وكل محاضرة كانت بمثابة خطوة نحو النضج. يتردد في ذهني صدى أصوات الأساتذة الذين شكّلوا جزءًا من رحلتنا التعليمية، حيث كانت كلماتهم تتجاوز حدود الكتاب والمادة. كل واحد منهم كان يحمل في طيّاته حكمة معينة، تدفعنا للتفكير والتساؤل. عندما تجوّلت في الساحات التي كانت مسرحًا لأجمل أوقات فراغنا ولقاءاتنا الجامعيّة، شعرت كأن الزمن قد توقف. كانت تلك السّاحات مليئة بالحياة، حيث كنا نلتقي مع الأصدقاء، نتبادل الضحكات والأحلام، ونتحدث عن المستقبل الذي كان يبدو بعيدًا ومليئًا بالغموض. كلّ خطوة فيها أيقظت في نفسي شعورًا بالفخر لما أصبحت عليه الآن، وفي نفس الوقت حزنًا عابرًا لأيام مضت. مشاعر متضاربة تتصارع في داخلي بين الحنين للماضي والامتنان للحاضر الذي بُني على تلك الأسس. شعرت أن كل تجربة، سواء كانت جيدة أو سيئة، أسهمت في تشكيل ذاتيّ، وأن كل قرار اتخذته في تلك المدة كان له تأثير عميق على مساري في الحياة. زيارة جامعتي القديمة ذكرتني أن كل ذكرى جميلة محفورة في القلب تبقى نبراس يضيء دروبنا نحو المستقبل، رحلة عبر الزمن، تعيد إلى الأذهان أن المعارف التي اكتسبناها والصداقات التي بنيناها تظل تمنحنا القوة والإلهام في مسيرة حياتنا. كل شخص زاملته كان له تأثيره الخاص، وكل لقاء كان بمثابة تذكير بأننا كنا جزءًا من شيء أكبر، تجربة مشتركة جمعتنا تحت سقف واحد. كما أنني أدركت أن الجامعة لم تكن مجرد مكان للدراسة، بل كانت مدرسة للحياة. هناك تعلمنا كيف نتعامل مع الفشل، كيف نقدر النجاح، كيف نتقبل الآخر وكيف نبني علاقات إنسانية عميقة. الدراسة في ذلك الصرح العتيق (جامعة الإمام) قادتنا نحو الاعتدال والوسطية وسط حقبة هيمنة التشدد، حيث تعلمنا حينها، أهمية الاطلاع على الآراء الفقهية الأخرى المعتبرة والانفتاح على سماحة الدين. أدركنا أن الأحكام ليست قطعية، بل هي بين الأخذ والرد، مما ساهم في تعزيز فهمنا العميق للدين ومرونته. كانت تلك السنوات مليئة بالتحديات المرحلية في كل النواحي الفكرية والمجتمعية ، لكنها أيضًا كانت مليئة بالفرص للنمو والتطور. كلما تذكرت تلك الأيام، شعرت بالامتنان لكل لحظة قضيتها هناك وفي أثناء الزيارة، شعرت أنني في بيتي، فهذه الجامعة ليست مجرد مكان في ذاكرتي، بل هي جزء من هويتي. لقد تركت آثارًا فريدة في نفسي، وأثرت في مساري الشخصي، عدت بعدها إلى حياتي، لكنني أحمل معي تلك الروح الجامعية، تلك الحماسة للتعلم والإبداع، وأعد نفسي أن أظل مستمرًا في رحلة الاستكشاف والنمو. * بصيرة: الذكريات لا تموت، بل تعيش فينا، تدفعنا للاستمرار في السّعي نحو المعرفة والنجاح.