(1) لقد أثارني حصول شركة اتصال الإمارات على عقد تأسيس شركة منافسة في المملكة (موبايلي) وقد كان ذلك منذ زمن وقد كنت أسأل نفسي كيف يمكن لشركات في دول مجاورة أن تتفوق علينا ونحن بهذا الحجم الاقتصادي والبشري والآن بعد أن حصلت شركة إعمار الإماراتية على عقد تنفيذ مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في رابغ تأكد لدي أنه يوجد لدينا مشكلة تجعلنا لا نتطور كثيرا، فما الذي يمنعنا من التطور وما الذي يحد من ظهور شركات منافسة في بلادنا تستطيع أن تعمل في الخارج (لا أن تستثمر فقط في الخارج). في اعتقادي أن الأمر مرتبط بغياب الرؤية الاستراتيجية التي تحدد مسارنا التنموي، فلا يوجد لدينا تصور واضح لما نريد أن نكون وهي إشكالية عميقة تحتاج إلى هيكلة إدارية وتعليمية شاملة. كما أن الأمر له ارتباطاته الادارية، فأنظمتنا قديمة ومعقدة ويصعب تحديد الحقوق والواجبات فيها. انها أنظمة «زاحفة» وتجعل كل من يعمل من خلالها يزحف معها، فكيف نتوقع أن يتطور لدينا مناخ يدفع التنموية ويصنع بيئة تنافسية ونحن نعتمد على نظام إداري بالٍ يقتحمه غير المؤهلين بل ويصنعون مسارته لأنهم غالباً في رأس الهرم الاداري، إنها إشكالية «عشائرية» حيث يصبح من ليس كفؤا في مكان يحدد مسارات التنمية وإجراءاتها اليومية، يساعده في ذلك «تراخٍ» قانوني يجعل كل من يفكر في التطوير يتردد ألف مرة قبل أن يقدم على مغامرة غير محسوبة العواقب. (2) النمو الاقتصادي ليس بحاجة إلى نظريات، وأنا هنا لا ألغي القيمة الفكرية لعلم الاقتصاد، فهذه النظريات تتطلب مناخا إداريا مطمئنا لا أعتقد أنه موجود لدينا والحقيقة أنني من الذين يعولون على «روح السوق» المنفتحة للجميع والتي تساوي بين كل أفراد المجتمع في الفرص، وهي روح ديمقراطية ذات قوانين صارمة تدفع الفرد للعمل بأقصى طاقة للتطور الشخصي من خلال تطور المجتمع ككل. هذه الروح الغائبة هي التي ستجعلنا في مؤخرة الركب الخليجي، فهذه الدول الصغيرة صارت تتفوق علينا وصارت شركاتها تقتحم أسواقنا ولا أعلم ماذا سيحدث في المستقبل، لأن المراقب يشعر أننا نخسر في صالح الآخر (وطبعاً لا نستطيع أن نلوم الآخر الذي يتقدم ويتطور ويضع خططا تنموية تعيد تعريف السوق وتنظمه). بالتأكيد أنا لا أقلل من قيمة وأهمية الدول الخليجية الأخرى التي تمثل لنا شريكا ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا رئيسا لكني أتمنى أن نحذو حذوهم ونحرر نظامنا الاداري المتهالك من كل القيود التي تجعل بلادنا بطيئة وثقيلة الحركة، ولعل البداية تكمن في وضع النظام القانوني المرن والمستقل الذي يمكن أن يطمئن المستثمر في الداخل والخارج ويسرع من عملية التنمية ويحقق مبدأ تكافؤ الفرص المبني على الكفاءة. (3) لا أنكر أنني شعرت ببعض الغيرة عندما سمعت أن شركة إعمار فازت بعقد مدينة الملك عبدالله الاقتصادية وهو عقد ضخم لا تفوز به إلا الشركات العملاقة، وقد كنت قبل أيام من الخبر مع أحد المسؤولين في احدى الشركات العقارية الكبرى في المملكة وكان يتحدث عن شركة إعمار بإعجاب شديد وكان يقول عنها إنها شركة تعرف كيف تجعل أي مشروع ناجحا. واستغربت من هذا الحديث كوني كنت أتوقع أن يشعر بأهمية أن يكون منافسا وأن تكون شركته هي التي تعرف كيف تجعل كل مشروع ناجحاً لا أن تحول الصحراء إلى مخططات وهمية وتسحب السيولة النقدية من السوق وتساهم في تباطؤ حركة رأس المال ومن ثم تباطؤ الاقتصاد الوطني بشكل عام. وتذكرت أثناء هذا الحديث كل شركات العقار التي نشأت في بلادنا وتقريباً اندثرت أو هاجرت، ولأنني متابع للسوق العقارية وأتحسر على الاستثمارات السعودية المهاجرة نتيجة لانغلاق السوق وهيمنة بعض المتنفذين على النظام الإداري وابتكارهم كل العوائق التي تصيب المستثمر بالنفور. ويبدو لي أن حال السوق الذي تكتنفه صعوبات إدارية كبيرة جعلت من المستثمر يفكر فقط في «بيع الوهم» في مجال العقار (على سبيل المثال) ولا يقدم على مشاريع تنموية حقيقية لأنه في هذه الحال قد يواجه بيروقراطية الأنظمة والقوانين وقد يصطدم بمزاجية وزارة العمل وربما يعطل موظف صغير في مؤسسة حكومية لا يعي قيمة وتأثير المشروع على الاقتصاد العمل، وقد مررت بهذه الحالات كثيراً خصوصاً في مجال العمل البلدي، إنها بيروقراطية تعيق نمو كيانات كبيرة ومتطورة ومنافسة على المدى الطويل. (4) هل اسمي ما يحدث لدينا «حالة ثقافية خاصة» فكثير من الذي درسوا النمو الاقتصادي للأمم يربطون حالة الاقتصاد بالحالة الثقافية العامة للأمة، وفي اعتقادي أن تركيبتنا الثقافية والاشكالات المجتمعية التي نعاني منها لها دور كبير في تحديد المناخ الاقتصادي العام. والذي يظهر لي أن الثقافة العامة تمثل عائقاً تنموياً كبيراً في كثير من الأحيان، ولعل حالتنا على وجه الخصوص لها حضورها الثقافي، إذ أن عدم تطور الأنظمة والقوانين وتصاعد البعد العشائري مقابل انكماش الكفاءة في تولي القيادات الادارية وغيرها من ظواهر ثقافية جعلت اقتصادنا في حالة تباطؤ (إذا ما وضعنا النفط جانبا) صرنا نشعر به الآن بينما تعود جذوره إلى فترة طويلة وعلى الأصح مع تأسيس المجتمع الحديث في المملكة. تأثير الثقافة الغامض على الاقتصاد له مفعول طويل الأمد ومظاهره لا تبدو إلا بشكل تدرجي لكنها مؤثرة ويصعب تصحيحها لأنها عندما تطفو على السطح تكون قد تجذرت في كل طبقات المجتمع وأصبحت جزءاً من ممارستهم للحياة ومن سلوكهم اليومي وحتى يتم تغيير كل هذا قد يكون الوقت قد فات. في هذه الحالة سنكون أمام حالة ثقافية رافضة للتصحيح والتغيير، ترى انها تسير في الطريق الصحيح بينما هي تخسر مكانها شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الدرجة التي يستحيل معها التغيير. (5) قبل عدة أيام كنا نتحدث عن بعض الهموم التعليمية وتبعاتها الاقتصادية والتنموية بشكل عام وكنا نناقش مسألة «توطين التقنية» على وجه الخصوص وكان لي رأي في مسائل ثلاث هي النفط والمياه والكهرباء (وهي آراء قديمة وسبق أن كتبت عنها في هذه الصفحة) وقلت إننا أكبر دولة مصدرة للنفط ومازلنا نصمم مشاريعنا النفطية وننفذها في دول أخرى (رغم أنها غير منتجة للنفط) كما أننا أكبر دولة منتجة للمياه المحلاة (حسب ما سمعت من الزملاء في المؤسسة العامة لتحلية المياه) ومازلنا لا نعرف كيف ننتج هذه التقنية رغم أننا أكبر دولة مهددة بنقص في المياه، اما الكهرباء فهي تقنية حيوية لا نستطيع الاستغناء عنها. فما الذي يمنع من ظهور شركات كبرى تهتم بهذه التقنيات وتطور التعليم في هذا الجانب وتحول مجتمعنا إلى مجتمع متخصص في هذه التقنية ونصدرها للعالم. يؤكد لي البعض أن هناك مركز أبحاث للمياه في مدينة الجبيل لا يعمل ويبدو لي أن هناك مراكز كثيرة مجرد مسميات كبيرة تستنزف ميزانية الدولة دون انتاج حقيقي (انتدابات ورحلات سفر لمسؤولي تلك المراكز). أليست هذه حالة ثقافية خاصة تثير مسألة الكفاءة فمن أوصل هؤلاء لتبوّء ادارة تلك المراكز والمؤسسات. إنها منح خاصة يقدمها البعض لإرضاء البعض دون التفكير في مصلحة الوطن العليا، وهو ما يجعل الأمر غير مستغرب عندما تمر أكثر من ستة عقود على أكبر دولة مصدرة للنفط ومازالت تصمم مشاريعها النفطية في الأرجنتين والهند وغيرها من الدول. هذه الحالة يصعب تجاوزها بسهولة وهي بحاجة إلى وقفة صارمة لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. (6) الحالة الثقافية التي تدفع المجتمع واقتصاده إلى الركون تصاحبها حالة تعليمية «مهادنة» غير ناقدة، لا تحرك ساكنا، إذ أن البعض مازال يحلم بتطور «متنزهات تعليمية» ورؤية صناعية تقنية في التعليم فهؤلاء يقفزون فوق «استراتيجية» التعليم التي لا تعرف كيف تتخلص من مشاكلها البسيطة. تخيلوا معي أننا في الجامعة لا نستطيع أن نستقبل أي وفد زائر يريد أن يتعاون مع القسم إلا بعد أخذ موافقات يكون الوفد نفسه قد نسي الموضوع برمته، ولا أعتقد أنه في تاريخ تعلمي وتعليمي بالجامعة أتيحت لي فرصة لزيارة طلابية لجامعة خارج المملكة إلا مرة واحدة بالصدفة قبل عقدين من الزمن، كما انني أذكر أنه قد طلبت مني جامعة خارج المملكة أن أعمل معها للإشراف على عدد من طلابها في الدراسات العليا الذين يرغبون في اجراء دراسات عن المملكة وسوف يأتي الطلاب (على حسابهم الخاص) لمدة شهرين ورفضت جامعتنا هذا الطلب. مشكلة التعليم الساكن هو في قبول الأمر الواقع فلا تحاول أن تثير المتاعب وهو ما يعني «لا تعمل» قم بواجبك التدريسي و«لا تزعجنا» فهل نتوقع من هذا التعليم أن يغير هذه الثقافة التي لا تدفع للنمو. (7) إنها شبكة من العوائق يصعب تحديد سببها الأول فهي حلقة مفرغة لا يمكن تحديد بدايتها لكننا أمام معوقات حقيقية لا نتصور أن تحل بمشاريع جزئية أو بأحلام فردية. فالأمر يحتاج إلى مزيد من التشخيص ومن الشفافية في الطرح ويحتاج إلى شجاعة لوضع النقط على الحروف، فلن ينفعنا في هذه المرحلة التاريخية المهمة التي تتاح لنا فيها العديد من فرص التصحيح (خصوصاً مع الوفرة المالية الكبيرة والمتوقعة في المستقبل القريب بإذن الله)، إلا المصارحة والنقد البناء وتحديد المشاكل الحقيقية مهما كانت حساسة طالما انها تصب في مصلحة الوطن. إنها فرصة لا تعوض كي نصحح مسارنا الثقافي والتعليمي والاقتصادي وأن نركز على الإنسان الذي يبني الاقتصاد ويبني المعرفة والتقنية المحلية.