أثناء مرافقة الشاعر عبدالعزيز الجريفاني -رحمه الله- للهولندي مارسيل في حائل شعر الهولندي أن دليله قد كافح كل حياته للتحرر من البيئة التي يفتش عنها الزائر الهولندي حتى في قصائده الأولى مارس الجريفاني كما يقول لعبة القفز على تقاليد عريقه في شعر الصحراء. فبدلاً من تصوير بعير من نوع معين ولون محدد له سيقان وسنام وصدر وذيل وصفات كذا وكذا، يصف الجريفاني سيارة موديلها وطرازها وسرعتها القصوى في الساعة ويضرب مثلاً مستهل إحدى قصائده المعنونة ب(واحن قلبي) واحن قلبي حن فرت لا استمر يسوقها عند (ن) ابليس شايله تلقى عيونه حمر من زود السطر وطاقيته من فوق راسه مايله تسمع قشيط المرو من حدر الكفر رصاص قوم مع بعضها صايله عليك ياللي جامر قلبي جمر يا عنق ريم طالعت له زايله ياعود موز ناعم وسط الشجر بظلال هيف عن سموم القايله والعين عين اللي من الجو انحدر لا صاده الشباك في حبايله وخده قمر خمسة عشر توه ظهر على الردايف ناسف جدايله تلقى عيونه حمر من زود السطر .. وطاقيته من فوق راسه مايله بدلاً من الإبل والقول لمارسيل التي كانت تستخدم في القرى لسحب الماء من الآبار في دلاء كبيرة يسوقها غلمان في النهار والليل، يستخدم الجريفاني صورة سائقي السيارات السمر المنحدرين من سلالة سمراء قديمة. يقود هؤلاء سيارات أجرة أميركية ذهاباً وإياباً في مكة من دون عقال وكوفيه باستثناء طاقية خفيفة تميل على قمة الرأس -ويمكن أن يستشف المرء من القصيدة أن السيارة تنطلق عبر مشهد شائع في الجزيرة العربية: امتداد كامل الاستواء من الصحراء يغطي قاعدته الرملية موزاييك من الصوان المسطح- السعوديين يقودون سياراتهم على هذه البطاح بسرعة تزيد كثيرا على مئة كيلو متر في الساعة فتحفر اطاراتهم في الحصى الصغير وتقذفه بقوة كأنها رشقات رصاص من مدفع رشاش. ويرى أن التشبيه ليس جديدًا لأنه حتى البدو في الزمن الأول كانوا ينظمون قصائد من القوة التي كانت إبلهم السريعة كالبرق الخاطف تقذف بها الحصى خفافها مثل السيارة. وهذا على وجه التحديد هو الغرض. فالجريفاني يريد أن يبين لنا أنه شاعر زمانه ولكنه يتمسك بالقيم العربية. إلى هنا يذكر مارسيل أن هناك في الجزيرة العربية من يستخدم شعر المدائح للكسب المغري، ويذكر أنهم عندما كانوا في جولة عبر إحدى صحاري النفود البعيدة حمله دليلة ذات يوم على الخروج عن الطريق الى الرمل والتوقف عند كوخ مبني من كتل اسمنتية على بعد مئة كيلو متر. رأى بضع أغنام واكوام من الحطب جمعت من جذور نباتيه ملتوية، هي النفايات المعهودة حول أكواخ البدو الذين استوطنوا في عهد قريب. دليله كما يقول توجه بالتحية إلى شيخ طاعن في السن كان يجر قدميه حول الكوخ، وبعد فترة وجيزة أخرج أحد الأبناء مجرورًا. كان الوقت قبل ساعة الغروب بقليل، وكان الصبي قد تطوع للصيام ستة أيام شوال. فكانت أفكاره منصبة على أول قدح قهوة وأول تمرات سيفطر عليها. ولكن والده قال له أن يلقي أولاً ثلاثة أبيات من شعر المديح في آلة التسجيل التي كانت مع الهولندي. أحد الأبيات مهدى لإحدى الشخصيات وقد أكسب الفتى عشرين ألف ريال تعادل في حسبة مارسيل تلك الأيام عشرة آلاف دولار. تساءل الضيف بصمت كم جنى شاعر الجبلين خلال هذه السنوات ولكن الجريفاني -رحمه الله- اختصر عليه السؤال وقال بأنه لا يحب الشاعر العربي الكبير المتنبي لأن (يده دائمًا تحت) أي أنه لم يعمل لكسب رزقه سوى نظم قصائد في مديح الأمراء أو هجوهم إذا أخفق في غايته واستخدم الشعر بوصفه شكلاً من أشكال الابتزاز السياسي وللزهو والمفاخرة المنفلتان اللذان هما جزء من تقاليد الثقافة الشعرية العربية. والمتنبي مرة أخرى فارس فيهما بلا منازع. تصرف بسيط من الشاعر الجريفاني ترك عند مارسيل انطباعا جيدا عنوانه التواضع والوقار والترفع على أمور الدنيا، ففي ظرف معين قال: إن الشعراء مرهفون بطبيعتهم، كان ذلك عند ما رفض اقتراح الضيف الذي طلب القاء إحدى قصائده عن فن الشعر بحضور جمع من الشعراء البدو.. رد الجريفاني: انهم سيعدونها انتقادا ولن يكون ذلك من باب اللياقة. كان شاعر الجبلين كما يقول مارسيل. يمقت كل ما ينافي اللياقة وحسن السلوك والاحترام الذي يدين به المرء للمقام والمكانة. الإبل في القرى تستخدم لسحب الماء واحن قلبي حن فرت مارسيل بصحبة الرحول