جلست على قمة كثيب في أعماق الجزيرة العربية. دائرة ملتوية تكونت حول قاعدة مصباح (كالور) الغازي على طاولة السفر، حولها حشرات ارتطمت متهافتة بزجاج المصباح أو أحرقت أجنحتها. ومن تحت كان يأتي بين حين إلى آخر هدير اللوريات تتسلق بمشقة مرتفعات الطريق الذي تركته توا، نسمة صحراوية حزينة تهمس وتخشخش كانت تلامس الكثبان وتحمل معها الصوت البعيد لكلب ينبح. هكذا ابتدأ الدبلوماسي الهولندي مارسيل كوربرشوك سرد ذكرياته في الثمانينات الميلادية القريبة عندما انطلق باحثا ومتتبعا خارطة بعض قبائل الجزيرة لتحري تاريخها ونبش ماضيها ومغامرات شعرائها وهو الباحث (الساخط والمنفعل دائما) الذي انغمس في حياة البدو وحفظ أشعارهم ونازلهم بلغتهم البدوية قراءة الشعر وتتبع الأنساب ومعرفة النجوم وتاريخ الغزوات. كان مارسيل تلك اللحظة يدفن قدميه العاريتين عند تلة رملية في نفود السر ووراءه الناقة الحمراوية (حمرة) كما أطلق على سيارته اللاندروفر وهي تحمل متاعه المبعثر على صورة جائل مشرد وذلك أثناء ما ابتدأ مقدمة كتابه(البدوي الاخير) الذي حمل الكثير من المعلومات والمتناقضات وغاص في بحور الشعر ولغته والطريقة التي يلقى بها حتى قال: لقد خلفت ورائي العالم المأهول والحضارة والمواظبة والنظام والروتين، وعلى امتداد عامين أعددت نفسي لكي أجرف كما جرف (كروزو) إلى هذه الرقعة العذراء. كلما أحتاج اليه للبقاء كان محفوظا في بطن سفينتي الصحراوية الآلية (حمرة) وعلى سطحها أوانٍ وقدور واسطوانات غاز وما يكفي شهورا من تموينات الطوارئ وخيمة بدوي كاملة، ولكن في المقام الأول صناديق مليئة بنسخ مصورة للمنشور من قصائد وحكايات من القبائل السعودية التي التقيتها في رحلتي، كانت هناك حقيبة عملية مليئة بالبطاريات والأشرطة لجهاز التسجيل – درة من التكنلوجيا في محفظة جلدية ناعمة مبطنة بالمخمل – وإن أصاب حمرة عطل ما فسيكون الجهاز شاهدا معصوما على كلمات منطوقة كانت ستضيع لولاه إلى الأبد. هذا على اقل تقدير ما كنت آمله لأن مشروعي كله كان قائما على جهاز(سوني) الصغير. حتى يومنا هذا بعد مرور عامين مازال رأسي يضج بالأصوات أصوات الشعراء والصامدين في الصحراء العربية، التي التقطها الصندوق الأسود الصغير والتي اصطرعت معها على سماعة أذني كما يعقوب مع الملاك، إنها ليست أصواتا شجية أو حساسة أو مفكرة. هي كل شيء لا تستطيع سماعة في قطعة موسيقية قصيرة من تأليف (شوبان). إنها أصوات مبحوحة، خشنة، جافة : أصوات فحم يتكسر شظايا متناثرة. بعضها يدندن بإيقاع منبسط رتيب كأنه دولاب عربة ريفية تمضي على طريق من الحصى. وبعضها الآخر يطلق أبياته كما العداء منطلقا نحو خط النهاية في سباق المئة متر: ذكرياتهم على ألسنتهم مثلما تكون ذكريات بعض عازفي البيانو في لمسات أصابعهم وهم يعرفون أن أقل لعثة تكفي لفقدان الصلة بما بعد. في المقام الأول انها أصوات لا يفهمها من لم يعش زمنا طويلا وسطها. أصدقائي في الصحراء يمضون في حيواتهم، وعليهم أن يتدبروا أحوالهم من دون عناية طبية بأسنانهم أو أجسامهم. وما يظهر أحيانا من أضراس خربة صفراء صمدت في وجه عوادي الزمن في أفواههم كما الأثافي التي عركتها الطبيعة واستندت إليها قدور الطبخ في خيمة الحبيب، قد مر زمن طويل منذ أحالتها الرمال إلى أطلال يحتفي بها الشاعر تقليديا في مطلع قصيدته الحزين. أحيانا تلح على المرء الفكرة القائلة إن علاقة سببية تربط بين المواهب الشعرية والمعوقات الكلامية. إن عددا كبيرا من أصحابي (الدرد) المغمغمين، يلثغون أو يفئفئون أو يطردون كلماتهم من خلال الشق الفاغر في الشفة الارنبية كما الهواء الذي يهسهس من صمام فيه تسريب. صندوقي الأسود لم يسجل الصوت فحسب بل ومعه الحياة التي استمرت من حولنا طوال الوقت: ذباب يطن حول الميكرفون، صوت يتلاشى لأن الشاعر ينظر حوله ليرى أين سرح قطيعه((هووو...وووي ) مفاجئة في وسط بيت الشعر لهش جمال فضولية بإفراط. وكان يحدث أيضا أن تختلط أصوات من كل صنف كما تتنافر من عازفي فرقة موسيقية يجربون آلاتهم في الدقيقة الأخيرة قبل أن يرفع المايسترو عصاه: رغاء الجمال، الصوت الأجش لامرأة تنادي من الخيمة، رجل إذ يبدأ الأذان بينما يمضي الشاعر مدندنا حول قدود النساء المياسة التي تكشف عن أوجه تشبه الكثبان بعد ما رشها رذاذ المطر . يتذكر الوقت فجأة ويتمتم بجواب ثُمن موسيقي خافت (لا اله الا الله) يطلقها من صميم القلب. اللغة التي يتكلمها أصدقائي آتية من ماض بعيد لا يمكن أن يعاد بناؤه من نتف الا جزئيا، الطريقة التي كانت أشجار النخيل تسقى بها بمساعدة جمال مدربة خصيصا على سحب الماء من البئر ليلا ونهارا، القواعد المعقدة التي يجب الالتزام بها في الحروب والغزوات، الظلال التي لا عد لها من الفوارق الدقيقة، وبرغم ذلك تلتقطها عين البدوي الصقرية في التضاريس والنباتات الصحراوية التنويعات في سبر دابته – أدواته وأسلحته كل ذلك يمثل عالما كاملا من الكلمات البعيدة عن السعودي العصري الذي يستخدم لغة السوبرماركت والإسلام. إنها لغة وشعر وثنيان فخوران عاشا بلحن الطبيعة قرابة ألف عام إلى أن جاءت الرأسمالية النفطية والتكنلوجيا الغربية لتقحم المتوحشين النبلاء في قالب ضيق من أخلاق العبودية وهذه على أقل تقدير هي الرؤية الأوروبية الرومانطيقية التي روجها بريطانيون نوستالجيون مثل تي ..أي لورنس المعروف على نطاق أوسع بلقب لورانس العرب، وولفريد ثيسيغر، فكانت في نهاية المطاف سبب قعودي على الكثيب. لن تسمعوا البدو أنفسهم يشكون من مبادلة بعيرهم وقربة حليب رائب بسيارة تويوتا جيب وصندوق تبريد معبأ بعلب من حليب الناقة الآتي لتوه طازجا من معمل الألبان.