في نهاية العصر العباسي الأول تحول الخليفة الى رمز لا حول له ولا قوة "خليفة في قفص" كما يقول الشطر الشهير. وانتقلت السلطة السياسية الى دويلات تتقاسم العالم العربي، ويمتد نفوذها وينحسر بحسب الأحوال وحسب مواهب الحاكم وقدراته. لم يعد هناك بلاط واحد يقصده الشعراء بحثاً عن المال والمجد وتعددت القصور بتعدد السلالات الحاكمة. اضطر الشعراء الى مواجهة هذا الوضع الجديد، لم يكن من سبيل أمامهم سوى ان ينتقلوا من حاكم دويلة الى حاكم دويلة عارضين خدماتهم على من يريد شراءها. وهكذا تحول الشعراء/ الموظفون الكبار المثبتون على وظائف في بلاط أمير المؤمنين الى إجراء يبحثون عن رب العمل السخي كما يبحث البدو الرحل عن المطر. كل خصائص الشعر العباسي في مرحلته الذهبية تبدو لنا في شعر الشعراء/ الأجراء، إلا انها تبدو مصابة بتضخم شبيه بمرض الفيل. الغلو في المديح اصبح القاعدة الرئيسة التي تقاس بها جودة الشعر، ويكفي هنا أن أشير الى هذا البيت"البشع"لا أجد كلمة أخرى، للمتنبي:"لو الفلك الدوار أبغضت سعيه/ لعوقه شيء عن الدوران". الغزل في الغلمان أصبح القاعدة العامة التي لا يخرج عنها سوى القلة. زاد شعر الهجاء بذاءة وفحشاً كما زاد شعر المجون مجوناً. ظهر صنف جديد من الشعراء لم يعرف من قبل وهم"شعراء الكدية"أو التسول، ولجأ هؤلاء الى سلاح الابتزاز. إذا لم يصلحوا على ما يريدون مقابل المديح لجأوا الى هجاء مقزز في إسفافه. اتجه الشاعر/ الأجير شأنه شأن الأجراء في كل زمان ومكان الى اكثر أرباب العمل سخاء وأصر أصحاب العمل - مثل شيلوك في تاجر البندقية - على ان يتقاضوا مقابل ما دفعوه، ولنا هنا ان نتذكر أن المتنبي تلقى مقابل قصيدة من افضل قصائده ديناراً واحداً. ودخلت القصيدة التاريخ تحمل هذا الاسم:"القصيدة الدينارية"حقيقة الأمر ان المتنبي صور الكابوس الذي عانى منه الشعراء في هذه الحقبة بدقة تتركنا - وجهاً لوجه - امام الكابوس. حاول المتنبي ان يكون شاعراً/ ملكاً - هل يوجد سبب آخر يفسر إصراره المستميت على ولاية؟ - ولم ينجح. وحاول ان يكون شاعراً/ فارساً ولم يوفق. جرب وظيفة في بلاط سيف الدولة الا انه ما لبث ان ملها. كان المتنبي - شاء عاشقوه او كرهوا - شاعراً/ أجيراً يتنقل بين مختلف أصحاب العمل. كانت النقمة المتأججة على هوان الشاعر/ الأجير هي الدافع الذي قاد حياة شاعرنا الصاخبة الى نهايتها الدامية. الشاعر الذي فشل في ان يكون ملكاً. مات وهو يقاتل كالملوك ولسان حاله يردد: "وفؤادي من الملوك... وان كان/لساني يٌرى من الشعراء". لولا كبرياء المتنبي الشهيرة لقال"من الأجراء"ولعل هذا هو المعنى الذي كان في بطن الشاعر. لم يكن ليخطر ببال الشاعر الجاهلي ان هناك فرقاً يذكر بين الشاعر والملك، إلا ان دوام الحال من المحال. لا بد لنا هنا من أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة المتنبي ما الذي حول شاعراً/ أجيراً الى اعظم شعراء العربية في نظر البعض والى واحد من أعظمهم في نظر الجميع؟ وما الذي يجعل منه، في أيامنا هذه أكثر معاصرة من معظم المعاصرين؟ ولماذا يروي الناس حتى العامة منهم، أبياته من المحيط الى الخليج؟ كتبت آلاف الرسائل والبحوث عن المتنبي، ولا تزال تكتب، ومن المستحيل في عجالة كهذه ان أضيف جديداً وان كان بوسعي ان ادلي بدلوي في الدلاء. كان المتنبي ككل شاعر عظيم قادراً على تصوير النفس البشرية مجردة من قيود الزمان والمكان، لم يكن يصور ضياعه وحده، ولكن ضياع كل إنسان حين قال:"على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوباً أو شمالاً". ولم يكن يتحدث عن النهاية المأساوية لحب مر به شخصياً بل عن النهاية الفاجعة لكل حب عبر التاريخ حين أعلن:"نصيبك في حياتك من حبيب/ نصيبك في منامك من خيال". وكان المتنبي يعبر عن شعور كل من جرب هوان الرياء عندما قال:"ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بد". إلا ان المتنبي بجانب تناغمه مع النفس البشرية المجردة، كان يملك حاسة سادسة، لا نعرف كيف ولماذا جاءت، جعلته وثيق الصلة بالنفس العربية، تحديداً، وبكل همومها وتطلعاتها ولعل هذا ما قصده الأستاذ إبراهيم العريض حين اعتبره ابن العربية"البكر". عبر المتنبي بصدق عن ظمأ هذه النفس المتحرق الى الأمجاد. وسخر من قيادات زمنه: الأصنام التي لا تحمل عفة الأصنام، والأرانب النائمة بعيون مفتوحة، ووصف باحتقار الشعوب الخانعة التي ترعى وكأنها قطعان غنم. وتحدث بوجع عن عيش الذليل الذي يتحول الى موت أسوأ من الموت الحقيقي. ولم يتورع عن وصف الأمة بأسرها بأنها أضحوكة الأمم. هل يستطيع عربي معاصر أن ينكر ان هذه المشاهد العربية الأليمة لا تزال أمامنا بعد أكثر من ألف سنة من رحيل الشاعر؟ وهل يستطيع أحد ان ينكر أنه لا يوجد بين الشعراء المعاصرين من عبر عن الفجيعة إزاء هذه المشاهد تعبيراً يرقى الى مستوى المتنبي؟ * شاعر سعودي