التحالف الإيراني - السوري استثناء فريد في التحالفات الإقليمية التي تنعقد وتنفرط في تقلبات أمست قانوناً لسياسات منطقتنا، وذلك باستمراره لمدة تربو على 28 عاماً تقريباً على رغم التغيرات الجيو-استراتيجية العميقة التي عصفت بالمنطقة والعالم. ولا يستمد هذا التحالف خصوصيته من ذلك فقط، إذ انه يستمر في ظل مفارقة كبرى تتلخص في تعاظم النفوذ الإقليمي الإيراني بالترافق مع تراجع نظيره السوري إلى أدنى مستوياته في إطار هذا التحالف. وإذا عطفنا على تلك المفارقة ذات الدلالة، مؤشرات الاستحقاق المقبل في المنطقة، لاستنتجنا - غالباً - أن المرحلة الحالية التي يمر بها التحالف هي مرحلة ما قبل الافتراق، على رغم التصريحات الإعلامية والتأكيدات السياسية من مسؤولي البلدين على حتمية التحالف ورسوخه. يبدو أن قطب النظام الدولي، واشنطن، حسمت خيارها الاستراتيجي حيال إيران: إما الاعتراف لها بدور إقليمي كبير أو مواجهة طموحاتها الإقليمية بكل وسائل الضغط. وفي الحالين ستكون دمشق محلاً للمقايضة وليس طرفاً فيها، فالاعتراف بدور طهران الإقليمي لن يعني احتفاظها بكل تحالفاتها وأوراقها الإقليمية وإلا كان ذلك استسلاماً أميركياً أمام طهران، وهو أمر لا تدل عليه موازين القوى بين الطرفين. أما خيار مواجهة طهران بكل الوسائل فلن يجعل دمشق رابحة من الضغط على مرجعيتها الإقليمية، بسبب الاختلاف الموضوعي لعناصر معطيات القوة بين كل من دمشقوطهران. من هنا تزداد أهمية القراءة المتأنية لخلفيات التحالف الإيراني - السوري التاريخية وصولاً إلى استخلاص العبر عند التدبر في ضبط النفوذ الإيراني المتصاعد في المنطقة باصطفاف عربي، لا يستهدف مواجهة إيران وإنما رفع آثار اندفاعها الإقليمي، خصوصاً في لبنانوالعراق. وتقليب النظر في تشابكات الأحداث المتلاحقة في منطقتنا يقود إلى هدف استراتيجي ينبغي على الدول العربية الرئيسة وفي مقدمها مصر والسعودية السعي الى تحقيقه، وهو سحب سورية من تحالفها الحالي وإعادتها، ضمن شروط موضوعية، إلى عمقها العربي الطبيعي. يأتي التحالف الإيراني - السوري على رأس أولويات مشروع إيران الإقليمي، فبفضله تربط طهران الآن حيزاً جغرافياً متصلاً من النفوذ الإقليمي يبدأ من غرب إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية. ومن هناك تنتظم سلسلة النفوذ الإيراني وصولاً إلى لبنان على حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذه الإطلالة الأخيرة باتت إحدى الأوراق الممتازة في يد إيران لفرض حضورها الإقليمي سواء بحدود تماس مباشر مع إسرائيل، أو بضغط معنوي كبير على الدول العربية الرئيسة، خصوصاً في ظل تعثر عملية التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي. ولأن إيران ترتبط عقائدياً، ولكن ليس بالضرورة تاريخياً، مع جبل عامل في لبنان معظم منطقة الجنوب، تمثل سورية أيضاً حلقة الوصل التي تربط لبنان المهم عقائدياً واستراتيجياً لإيران بسلسلة نفوذها الإقليمي المتنامي. هذه"البراعة"الإيرانية في نسج التحالفات سواء مع أحزاب تنطوي تحت مظلة"الشيطان الأكبر"في العراق"أو مع أخرى تناصب واشنطن العداء العقائدي في لبنان، جعلت جمعها للتناقضات الأيديولوجية في سياسة إقليمية تخدم مصالحها الوطنية مثالاً يومياً على براغماتية سياسية قلَّ نظيرها. وبفضل موقع سورية الجغرافي الوسط بين العراق في الشرق ولبنان وفلسطين في الغرب، أصبح النفوذ الإيراني أمراً واقعاً في كامل المساحة الجغرافية الممتدة من غرب إيران وحتى شرق البحر الأبيض المتوسط. ويعود النفوذ الإقليمي الإيراني إلى مجموعة من الأسباب الموضوعية الخاصة بالتغيرات المتلاحقة في بنية النظامين الإقليمي والدولي سواء في العام 1990 أو في العام 2001، أو الانفجار الكبير المتمثل في احتلال العراق في العام 2003، والتي استثمرتها إيران جميعاً لمصلحتها الوطنية. ومثّل احتلال الكويت في العام 1990 طوق النجاة للنظام الإيراني كي يخرج من عزلته الإقليمية وينفتح سياسياً على جواره العربي. فقد استهدفت"الحرب على الإرهاب"? في ما استهدفت - الدول العربية الرئيسة التي صارت في حال دفاع متواصل ضد الهجوم الديبلوماسي والإعلامي الأميركي. وهيأت هاتان اللحظتان المفصليتان في تاريخ منطقتنا الأرضية المناسبة لإيران كي تخطو خطوات واسعة على طريق صعودها الإقليمي، حيث دشن احتلال العراق قمة الصعود الإيراني في المشهد الإقليمي، وذلك بعدما أصبحت إيران، وبفضل التركيبة السياسية والإثنية والطائفية للسلطة العراقية الجديدة، في موقع المتحكم بمقادير السلطة في بغداد للمرة الأولى منذ تأسيس العراق عام 1921. وعلى رغم الأهمية الفائقة للعامل الخارجي في تعبيد الطريق أمام صعود إيران الإقليمي، لا يمكن التحليل المنصف أن يتجاهل المحاولات الإيرانية الدؤوبة لبناء أو ترميم أو صيانة شبكة من التحالفات الإقليمية، تلك التي تمثل المداخل الإيرانية للنفاذ إلى معادلات المنطقة والتي يشكل التحالف مع سورية ناظمها الرئيس. ولئن بدأ التحالف الإيراني - السوري دفاعياً محضاً واستمر طوال الثمانينات والتسعينات منخرطاً أساساً في لبنان، إلا أن سقوط العراق جعل إيران في مرحلة هجوم على التوازنات السائدة في المنطقة، باستخدام التحالف نفسه ولكن لتحقيق أهداف متجددة. ولأن موقع لبنان الجغرافي لا يثبت متغيرات استراتيجية بقدر ما يعكس توازنات إقليمية"ينطلق التحليل التاريخي لمنعطفات التحالف الإيراني - السوري من التركيز على ترجمته في الساحة اللبنانية ومشهدها السياسي، الذي يعتبر ترمومتراً دقيقاً وصادقاً للتغيرات في حرارة الأطراف الإقليمية المختلفة. من عهد الشاه وكان العداء الأيديولوجي الذي تبنته سورية تجاه إيران الشاهنشاهية تحول رويداً رويداً إلى علاقات سورية - إيرانية موزونة بميزان الصراع مع العراق والوضع في المنطقة. وانعكست الخطوات السياسية بين سورية وإيران على العلاقات الاقتصادية بينهما، فتم التوقيع على اتفاق اقتصادي بين البلدين في العام 1974، وتتوج التقدم في العلاقات بزيارة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى طهران في كانون الأول ديسمبر 1975. وفي هذا التوقيت كانت إيران فرغت من توقيع"اتفاقية الجزائر"مع العراق حول التنازلات المتبادلة في ملفي حدود شط العرب ودعم الأكراد. وحتى سقوط الشاه في العام 1979 لم تبلغ العلاقات السورية -الإيرانية ما بلغته في العقود التالية، لكنها مثلت مؤشراً مهماً على الإدراك السوري للثقل الإيراني في معادلات التوازن الشرق أوسطية. ويضاف إلى هذا العامل ظهور إمكان للتعاون بين البلدين في الموضوع اللبناني، حتى قبل انتصار الثورة الإيرانية، بسبب الأهمية التاريخية التي أولتها إيرانللبنان. ولما كان الشاه إسماعيل الصفوي أعلن في العام 1501 التشيع مذهباً رسمياً للدولة الصفوية، فقد استقطب علماء هذا المذهب من جبل عامل في لبنان، فارتبط لبنان بهذه الذاكرة التاريخية الإيرانية، واستمر الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي في الاهتمام بلبنان، ليس من زاوية الأبعاد العقائدية هذه المرة ولكن من زاوية توسيع النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة. وبعد ظهور الدور المتنامي للسيد موسى الصدر، الإيراني الأصل والجنسية والذي هاجر إلى لبنان عام 1957، ومساهمته الأكيدة في رص صفوف الطائفة الشيعية اللبنانية نحو المطالبة بحصة أكبر من الدولة اللبنانية، برزت نقطة التقاء مشتركة بين كل من سورية، التي اعتبرت لبنان شأناً محلياً سورياً، وإيران الشاهنشاهية التي لم تتخل - مثلها مثل كل حكام إيران - عن طموحاتها الإقليمية. كان لبنان منذ بداية السبعينات ملتقى أطياف القوى السياسية الإيرانية، الإسلامية والقومية واليسارية، حتى أن شريحة واسعة من رموز الثورة الإيرانية ارتبطت بلبنان إقامة ونشاطاً سياسياً. ومن هذه الرموز الإيرانية إبراهيم يزدي أول وزير للخارجية في حكومة الثورة والمتحدث باسم الإمام الخميني أثناء الثورة، وصادق قطب زاده وزير الخارجية الإيراني الأسبق. وكذلك صادق طباطبائي المتحدث السابق باسم الحكومة الايرانية وابن شقيقة السيد موسى الصدر، ومصطفى شمران وزير الدفاع في حكومة الثورة ومؤسس الحرس الثوري الإيراني، ومحمد منتظري ابن آية الله منتظري، وجلال الدين الفارسي المرشح لرئاسة الجمهورية بعد انتصار الثورة، وعلي أكبر محتشمي أحد مؤسسي"حزب الله"لاحقاً والسفير السابق في دمشق. ولادة تحالف تغيرت الموازين في المنطقة بعد انتصار الثورة الإيرانية، وتجلى الظهور الإيراني الجديد في المنطقة في معارضة الغرب والاتفاقية المصرية - الإسرائيلية للسلام، والتطلع للعب دور أكبر على الساحة الإقليمية. وفي عام انتصار الثورة الإيرانية 1979، كانت العلاقات السورية - العراقية بلغت أقصى انحداراتها، إذ اتهمت بغداد النظام السوري بتدبير محاولة انقلابية ضدها وحشدت قوات عسكرية على الحدود مع سورية. أيامها أصبحت السياسة السورية في مأزق بسبب فقدانها للعلاقات مع مصر والعراق مرة واحدة، مما أفقدها علاقاتها الإقليمية التي امتازت بتوظيفها لموازنة الحضور الإسرائيلي المتزايد. ثم جاء الغزو العراقيلإيران في خريف 1980 ليزيد من ثقل سورية في العيون الإيرانية من الناحية الإستراتيجية. فمن الناحية الأيديولوجية الإعلامية كانت العلاقات مع سورية، من المنظور الإيراني، أكثر من مهمة للحيلولة دون تحول الحرب العراقية - الإيرانية إلى حرب عربية - إيرانية أو حرب سنّية - شيعية. وقامت سورية بإغلاق أنبوب النفط العراقيكركوك - بانياس وحرمت العراق من موارده المالية، وتسلمت في المقابل نفطاً إيرانياً رخيص الثمن. كما أن الانحياز السوري الى العراق لو حدث، كان من شأنه تقويض المواقف الإيرانية، حيث ان ذلك كان سيؤدى إلى استكمال حلقات الحصار الجغرافي على إيران، ويرفد العراق في الوقت ذاته بعمق إضافي. وبنت سورية جسوراً ديبلوماسية متميزة مع دول الخليج العربية توصل إلى إيران، فصارت قناة ممتازة للتحاور غير المباشر بين دول الخليج العربية وإيران. واستخدمت دمشق هذه القناة لإسناد مجهودها العسكري وتحقيق توازن ما مع إسرائيل ورفد اقتصادها بالمساعدات الخليجية. كما مثلت العلاقات مع إيران بديلاً معقولاً، من وجهة النظر السورية، لغياب الشريك التاريخي لسورية، أي مصر. وفي مقابل التحالف السوري - الإيراني دفعت التطورات العسكرية على الأرض في نهاية العام 1982، وبداية انكسار الهجمة العراقية ودخول القوات الإيرانية إلى أراض عراقية في العام 1983، إلى قيام تقارب بين مصر والسعودية والأردن للحيلولة دون انهيار القدرات العراقية، وبالتالي انهيار منظومة الأمن الإقليمي وقتذاك. وأدى احتلال بيروت في العام 1982، إلى ظهور الوجود الإيراني في الأراضي اللبنانية، بموافقة سورية، ليجعل لطهران إطلالة جغرافية على الحدود الشمالية لتل أبيب للمرة الأولى في تاريخها. وترجع الموافقة السورية على دخول العامل الإيراني إلى لبنان، وبالتالي قلب المعادلة الصراعية في المنطقة، إلى الاختلال الظاهر في موازين القوى أمام إسرائيل، وهو الأمر الذي دل عليه اجتياح بيروت بكل وضوح. وعلى رغم هذه الاعتبارات لم يكن السماح السوري بالنفوذ الإيراني من دون شروط، حيث توخت سورية الاحتفاظ بوكيلها المحلي"حركة أمل"كطرف أول على الساحة اللبنانية في مقابل حليف إيران، أي"حزب الله". وجسد الأخير ديالكتيك الوحدة والصراع في إطار التحالف الإيراني - السوري، باعتبار أن نشأته تعمدت من محصلة الصراع بين إيران من وراء"حزب الله"ضد"حركة أمل"وسورية في خلفيتها. ولئن عملت سورية على معادلة تأثير الأطراف اللبنانية بعضها ببعض في إطار هيمنتها، كان تشكيل"المقاومة الإسلامية"بقيادة"حزب الله"إيذاناً بخروج الشأن اللبناني من الهيمنة السورية المطلقة إلى الهيمنة السورية النسبية بسبب النفوذ الإيراني. وتذبذبت العلاقات الإيرانية - السورية باهتزاز موازين القوى داخل لبنان بين وكلاء الطرفين، فأوقفت إيران شحن نفطها إلى سورية أوائل العام 1986 بسبب الديون المستحقة لطهران على دمشق. ساعتها استجابت دمشق لمبادرة سعودية بتطبيع العلاقات بين دمشق وعمان، الحليف الأول للعراق وقتذاك، وهو ما دفع إيران إلى إعادة شحن نفطها إلى دمشق وتأكيد أهمية التحالف الإيراني - السوري. وكان وصول حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني إلى منصب الرئاسة في إيران عام 1989 وانتهاجه سياسات براغماتية تجاه دول الخليج، بمثابة الريح التي أطارت ورقة الوساطة بين ضفتي الخليج من يدي دمشق، وهو ما عجل بالرغبة السورية في عودة العلاقات مع مصر. وفي نهاية الثمانينات كانت سورية لا تزال الحليف العربي الأوحد لإيران، في حين شرعت طهران في تنويع علاقاتها الإقليمية. كان القاسم الأكبر بين دمشقوطهران متمثلاً في الاتفاق على إبقاء المقاومة اللبنانية وسلاحها ورقة ردع ضد إسرائيل، ولكن أدوار كل من طرفي التحالف في لبنان بدأت في التغير لمصلحة إيران التي صارت شريكاً فعلياً لدمشق هناك. تقلص الحضور السوري افتتح عقد التسعينات من القرن الماضي باحتلال الكويت، وما أعقبه من حرب الخليج الثانية، التي شرعت الباب أمام عودة إيران إلى جوارها العربي وإنهاء عزلتها. ووضعت مفاوضات مدريد، وعملية السلام التي أفرزتها، السياسة الخارجية الإيرانية في الشرق الأوسط تحت ضغوط قوية، بسبب انضواء كل الأطراف العربية المعنية في هذه العملية، بما فيها حليفتها سورية. وحصلت دمشق على توكيل دولي وإقليمي بالهيمنة على لبنان، فكان أول ما فعلته إثر إعلانها المشاركة في قوات التحالف الدولي ضد العراق، إزاحة الحكومة العسكرية التي قادها وقتذاك الجنرال ميشال عون. وهكذا تم تثبيت سورية ودورها الجديد من طريق إيكالها تنفيذ اتفاق الطائف وتحكيمها بين الفرقاء اللبنانيين، أو بالأحرى حكماً بين مشروعين سياسيين مثلهما المرحوم الرئيس رفيق الحريري المتحالف مع الرياض، وپ"حزب الله"المتحالف مع طهران. وفي الوقت الذي انخرطت سورية في مؤتمر مدريد للسلام واستمرت في المفاوضات مع إسرائيل، راحت إيران، التي لم تبدِ ترحيباً كبيراً بالانخراط السوري في عملية السلام، تحافظ على مواقعها في لبنان عند كل مفصل في المواجهة اللبنانية - الإسرائيلية مثل الأعوام 1993 و 1996 التي تمخض عنها"اتفاق نيسان"برعاية فرنسية وأميركية وإيرانية وسورية والذي حصر الاقتتال بين"حزب الله"و إسرائيل في الأهداف العسكرية فقط. شهد النصف الثاني من التسعينات فوز التيار الإصلاحي ممثلاً بالرئيس محمد خاتمي برئاسة الجمهورية في إيران، كما شهدت الفترة تحسين صورة طهران في العالم. وبالترافق مع هذه المعطيات كانت عملية السلام في الشرق الأوسط في حال من التراجع بسبب سياسات حزب الليكود الحاكم في إسرائيل وقتها. ودفعت هذه العوامل الثلاثة شراع السياسة الخارجية الإيرانية في بحار الشرق الأوسط المضطربة. وأرست إيران استراتيجيتها العربية على ثلاثة محاور تمزج بين الاعتدال والتشدد، هي السعودية وسورية ولبنان. المحور الأول حدد السعودية كمحور ارتكاز لعلاقات إيران الخليجية، بهدف تعزيز حضور إيران وقبولها الإقليميين وكذلك الانفتاح على العلاقات الدولية للسعودية. والمحور الثاني استمر بالنظر إلى سورية طرفاً أساسياً في الصراع العربي - الإسرائيلي وإبراز دعم إيران المعنوي والسياسي والاقتصادي في مواجهتها، والمحور الثالث لبنان وتثبيت مشروع"حزب الله"في جنوبه. أما سورية فأرست ثقلها الإقليمي على لبنان، خصوصاً بعد ضغوط أنقرة عليها، بسبب دعم حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان في إطار مواجهتها الديبلوماسية مع تركيا، خصوصاً بعد الإعلان عن التحالف التركي - الإسرائيلي. وحين اضطرت دمشق إلى الطلب منه مغادرة الأراضي السورية، أصبحت دوائر حركة السياسة الإقليمية السورية متقلصة إلى حدودها الدنيا. لم يهتز التحالف الإيراني - السوري بعد وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عام 2000، بل استمر قائماً بين البلدين، في ظل المحددات نفسها التي انتهى عندها عقد التسعينات، بقيادة الرئيس الجديد بشار الأسد. وجاء انسحاب إسرائيل من لبنان في منتصف عام 2000 ليسوق إنجازاً كبيراً للتحالف الإيراني - السوري، الذي بدأ يشكل ضغطاً معنوياً على الدول الداعمة لعملية التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي. وحرصت كل من طهرانودمشق على إدانة أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وعلى التعاون لوجستياً ومعلوماتياً مع واشنطن لمكافحة التنظيمات الإرهابية. وفي لبنان كان مشروع"الإعمار"الذي قاده رفيق الحريري يسير جنباً إلى جنب مشروع"المقاومة"بزعامة السيد حسن نصر الله، وكانت سورية مستمرة في لعب دور الحَكَم بين الأطراف. ثم جاء احتلال العراق عام 2003 ليقلب التوازنات في المنطقة رأساً على عقب وليبرز تناقضات حتى في التحالف الإيراني - السوري. وفي حين كانت دمشق عرضة لضغط أميركي كبير في مسألة العراق بزعم أنها تفتح حدودها لعمليات المقاومة ضد الاحتلال، كانت إيران في منأى عن الانتقاد، لأن حكام بغداد الجدد حرصوا على البقاء في مربع تقاطعات المصالح الأميركية - الإيرانية. كما أن سورية، وعلى رغم حدودها الجغرافية مع العراق، لا تملك امتدادات سياسية أو عرقية أو طائفية هناك، على العكس من إيران التي تملك كل أنواع هذه الامتدادات. ولم تتوقف الخسائر السورية عند هذا الحد فقط، بل أظهرت الأحداث في لبنان تهديدات مبطنة لدور سورية الإقليمي بسبب صدور القرار الدولي 1559 الذي يطالب سورية بسحب قواتها من لبنان وينزع سلاح الميليشيات المسلحة من هناك. وفي حين اقتربت التهديدات من سورية، كانت إيران تتعامل باسترخاء مع القرار الجديد لأسباب، أولها أن متاخمتها لكل من أفغانستان والعراق ودورها الإقليمي فيهما وضعا أوراقاً ممتازة للضغط في يدها. والثاني أن حليفها اللبناني"حزب الله"فرض حضوره الطاغي على الساحة السياسية والعسكرية، ونزع سلاحه ? على رغم القرار - بدا أمراً مستبعداً. والسبب الثالث أن التوافق الإيراني - السعودي في لبنان عبر الحلفاء المحليين لم يعد يرتبط بالضرورة بالدور السوري كحَكَم بين الفرقاء. والسبب الرابع يتعلق بحليف إيران الذي يمثل الشطر الأعظم لطائفة لبنانية كبرى، في حين لا تملك سورية مثل هذا الحليف هناك، إذ ان حضور"حركة أمل"أصبح لا يتجاوز"التفصيلة"في المشهد الشيعي اللبناني. أما باقي حلفاء سورية في لبنان والذين استمروا في موالاتها حتى صدور القرار 1559 فلم يملكوا أي صفة تمثيلية لطوائف لبنانية، وهي الشرط الأساس للاستمرار في اللعبة السياسية اللبنانية، ومرد ذلك أن الدستور اللبناني ينص على التقاسم الوظيفي للطوائف المختلفة. وفي بداية العام 2005 جاء الانفجار اللبناني الكبير والمتمثل في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ليقلب الوضع في لبنان وسورية رأساً على عقب. وتوالت الضغوط الدولية والعربية على سورية من أجل سحب قواتها من لبنان وهو ما حدث بالفعل. ومثّل الانسحاب السوري من لبنان أقصى منحدر يبلغه النفوذ السوري هناك منذ عقود. أما إيران فلم يتأثر وجودها ونفوذها في لبنان بالانسحاب السوري، إذ ان حليفها الأساس في لبنان"حزب الله"كان في موقع الطرف العسكري الأول، ويرتبط عضوياً ومرجعياً بعلاقات تحالف معها ليست محكومة بسقف السياسة، بل بسقف أعلى بكثير هو سقف المرجعية المذهبية ممثلة في المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي. وبالعكس مما يبدو في الظاهر، كان الانسحاب السوري مفيداً لإيران من زاوية أن الجيش السوري في لبنان كان الطرف الوحيد القادر ? نظرياً - على نزع سلاح"حزب الله"في حال حدوث توافق إقليمي ودولي حول هذا الموضوع. وبعد الانسحاب السوري ظهر تحالف المعارضة"8 آذار"الذي يقوده"حزب الله"ويمثل الطائفة الشيعية والمتحالف مع قطاع كبير من الطائفة المارونية وقطاع صغير من الطائفتين السنّية والدرزية، ضد فريق السلطة"14 آذار"الذي يقوده"تيار المستقبل"ويمثل الطائفة السنية وقطاعاً من الطائفة المارونية وغالبية الطائفة الدرزية. تعاطفت سورية مع فريق"8 آذار"، ولكن هذا التعاطف وبيانات التأييد من شخصيات وأحزاب لبنانيةلدمشق لم تستطع إخفاء حقيقة أن سورية لم تعد تملك أوراقاً حقيقية في حلبة السياسة اللبنانية. بعدها أفلح"حزب الله"في أسر جنديين إسرائيليين لمبادلتهما بأسرى في السجون الإسرائيلية، لكن الرد الإسرائيلي كان"حرب لبنان 2006"التي استمرت لأكثر من شهر، قامت خلالها الطائرات الإسرائيلية بتدمير قطاع كبير من البنى التحتية اللبنانية، ولكن"حزب الله"أبلى بلاءً حسناً وأمطر المدن الإسرائيلية بالصواريخ. وأثبتت الحرب أن إيران أصبحت اللاعب الأول على الساحة اللبنانية، وأن قدراتها العسكرية المتطورة، التي أظهر"حزب الله"جزءاً صغيراً منها، هي إحدى أهم أوراقها الردعية. وهكذا ستبقى الأزمة اللبنانية تراوح مكانها دون تأثير يذكر لسورية، في انتظار حسم الموقف الدولي من إيران سواء بالتصعيد أو بالتهدئة، والنتيجة الأساسية من هذه الحقيقة هي أن جزءاً لا يستهان به من مفاتيح الأزمة اللبنانية يوجد الآن في طهران وليس دمشق. كما تمسك إيران بمفاتيح التصعيد والتهدئة في العراق أيضاً، في حين أن دور سورية المجاورة هو في الحد الأدنى. ربما يهم سورية في العراق الآن مصير مدينة كركوك، التي يمر منها أنبوب النفط كركوك - بانياس على الساحل السوري وما يمثله من قيمة مضافة إلى الجغرافيا السياسية لسورية وليس فقط بسبب العائدات المالية المتولدة عنه. تتفق سورية وإيران على منع قيام دولة كردية في الشمال العراقي، لكنهما لا يمتلكان أية قواسم مشتركة حقيقية في العراق حالياً. قبل الافتراق يجب التمييز بين ما هو معطى وما هو نتيجة للوصول إلى جوهر الحضور الإقليمي الإيراني. لذلك، وبعد قراءة التحالف الإيراني - السوري ومنعطفاته التاريخية، يبدو الحضور الإقليمي الإيراني في منطقتنا نتيجة لمجموعة من العوامل: غياب الدور العربي أولاً، وأهمية الموقع الجغرافي السوري في الإستراتيجية الإيرانية ثانياً، والأخطاء الفادحة للسياسة الأميركية في المنطقة ثالثاً. وهذه النتيجة الثلاثية الأبعاد تفوق في أهميتها ما هو معطى من مقومات القدرات الذاتية الإيرانية لفرض حضورها الإقليمي بهذا الاتساع. وفي المقلب الآخر تبدو سورية في حال من ركود البوصلة الإقليمية وفقدان امتيازات الحضور السياسي في جوارها الجغرافي، بسبب"مصيدة التحالف الإيراني - السوري"والمآل الذي وصل إليه من مكاسب صافية لطرف على حساب آخر. دمشق هي أقرب ما تكون إلى العودة للاصطفاف العربي في هذه اللحظة التاريخية. ولأن اللحظة كذلك، فإنها تتطلب تعاملاً بالأهمية والعمق نفسهما، في شكل يستفيد من أخطاء الماضي ويتجاوز إخفاقات الحاضر، فلا يتعاون مع سورية من منطق الوكالة مرة أخرى في لبنان بل يتطلب منها دوراً إيجابياً في هذا البلد الذي يشهد على أرضه صراع إرادات من خارج حدوده السياسية. كما يتطلب ذلك من دمشق التعاون بإيجابية مع قرار المحكمة الدولية في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، والانضواء تحت السقف العربي. وتستلزم هذه المقتضيات في المقابل من الدول العربية الرئيسة، ومن أجل وقوف السياسة العربية على قدمين في مواجهة ما يفرض عليها من تحديات إقليمية ودولية، ضمان عدم تسييس المحكمة الدولية لأن استمرار الضغوط على سورية في هذا الشأن من أطراف لبنانية لن يترك أمامها من خيارات سوى التمسك بالتحالف الإيراني - السوري. والتحالف الأخير يعيد إنتاج المزيد من النفوذ الإقليمي الإيراني"ويرتد سلباً بالتالي على كل الدول العربية وتحالفاتها في لبنان. والتحديات المقبلة في المنطقة هي أكبر من لبنان ومن سورية ومن أي بلد عربي بمفرده. فالمواجهة الإيرانية - الأميركية الراهنة لن تخرج إلا بإحدى نتيجتين: إما محاصصة بين الطرفين لن تكون إلا على حساب الدول العربية ومصالحها، أو مواجهة مدمرة بينهما تدفع خلالها الساحات العربية وفي مقدمها لبنانوالعراق أغلى أثمانها. والمحاصصة المفترضة، إن حدثت، ستضمن لطهران دوراً إقليمياً بضوء أخضر أميركي وتحت سقف مصالح واشنطنوطهران، ومثل هذه النتيجة ستتطلب - بحكم منطق الأمور - تحولاً جذرياً في المواقف الإيرانية في ما يتعلق بعملية التسوية السياسية للنزاع العربي - الإسرائيلي وما يتفرع عن ذلك من علاقات تحالف. ساعتها سيختفي الجدار الذي تستند إليه دمشق في إدارة أزماتها الوقتية وتصبح هي نفسها أحد الأثمان التي ستقدمها طهران قرباناً لطموحاتها الإقليمية بعدما استنفد"التحالف"معها جلّ أغراضه الإقليمية والاستراتيجية. أما خيار المواجهة الأميركية مع طهران بكل الوسائل فسيخرج بنتيجة أن سورية ستنجر إلى المواجهة وإن لم ترغب في ذلك، وحصاد المواجهة لن يكون في مصلحة سورية المعزولة عربياً. المطلوب باختصار ووضوح تسهيل عودة دمشق من"مصيدة التحالف"الإيراني - السوري إلى"أرضية التفاهم"السعودي ? المصري - السوري، عودة بلا تعقيدات جمركية كبيرة ولا إجراءات دخول معقدة، فالعائد... من أهل الدار. * كاتب مصري. خبير في الشؤون الإيرانية.