يمثل الفن تلك القدرة المكينة على التحرر من سلطة الواقع، والانزياح لفضاءات سيميوطيقية خلابة، تستهدف خلق وتشكيل واقع جديد ينحو عن إعادة إنتاج واقع مماثل، والجنوح الكلي عن المادية والمعايير السائدة، عبر مثالية روحية وقدرة كلية على التمثيل البصري لكل أشكال التنوع التي تنتجها ذاتية الفنان. حسب "المرجعية الهيجلية" ينطلق الفن لتجسيد المطلق الذي يتلخص في (الفكرة -الروح -الذات الحسية)، وترابط الجمال والحقيقة، وإفصاح الفن بوفاء عن حقائق ومضامين الأشياء، والسمو بحدود العقل والمنطق لينزوي بذلك الفن كأيدولوجي صادق لصيق بقضايا الواقع والمحيط، ويصالح بيننا وبين جوهر الأشياء، ويقربنا من ذواتنا لتلمس الضمني الحسي، ومحو مسببات حجب الحقيقة وتلاشيها. "مرسمي للفنون" تحتفي بالحالات الإنسانية ل"أيمن حلبي" تحت سقف واحد و"مكان واحد يجمعنا" تسهم (مرسمي للفنون) بدور رئيس فاعل في تحفيز الساحة الفنية السعودية كقاعة ومنبر فني، لعرض الخبرات الإبداعية، وشحذ المواهب الشابة، وتنويع الرؤى الفنية والتجارب، لضمان التفاعلية مع الجمهور. حيث تستضيف القاعة معرض الفنان "أيمن حلبي" كشاعر وفيلسوف حكاء، يستحق لقب "دوستوفيسكي الفن" بما لديه من قدرات التنقيب والنبش الفلسفي. فكل ما يسطره ويبوح به بصرياً -لم يوجد عبثاً- بل نتاج عمق شديد وفهم مكين للنفس البشرية والحالات الإنسانية، والتي أطلق فيها الفنان لحرية مخيلته وتأطير الوجوه البشرية والعنصر الآدمي بإيماءاته وحركاته ووضعياته المنطلقة من مفهوم وهوية وخصوصية وأصالة شخصية، تدعمها طاقية وسيكولوجية اللون وعنفوان الخطوط والمساحات المتواترة وسيمفونية الكتل الإيقاعية. ليولد حالة إبداعية صادقه تصدح بالحداثي وليس تقليد الاتباعيات الاستهلاكية، عبر تأطير البحث عن الجمال والتعبير عن الحقائق، وتشكيل الأجساد النورانية المضيئة كمقابل للعتامة والتشوه والغموض، واستعراض جدليات الحياة والموت والأسئلة الوجودية، عبر الأبيض والأسود والرماديات، فجاءت أشكاله في حالة انتصاب وميل وسقوط وكاملة وبعضها منقوص، وبعضها اعتمد على الوجوه البشرية، داخل فراغات ديناميكية وبعضها عبر أجواء ضبابية موحية وإطلاق الخطوط والمساحات الملونة، لتقوم عين المتلقي بإكمال الأجزاء الناقصة عبر عمليات الإغلاق ونظرية إدراك الجشطالت. لتأتي الصيغ الشكلية لدى "أيمن حلبي" منحازة لقيم (العدل والصدق والحب والجمال) وتغليفها بالمعاني والمضامين والدلالات الاشارية ومزاوجة (الرمزي -مع التجريدي -مع التعبيري -مع تدافق الفانتازي) في شروحات بصرية محكمة رصينة، والمخططات اللونية الزاهدة النورانية المتوهجة الجامحة والأبيض والأسود المقتضب، لتصدير أسرار تصويرية خاصة تندفع نحو تفتيت الكتل وطمس بعض أجزائها بما يدعم الرونق الروحي والإنساني الداعم للحالات الإنسانية وإيماءاتها، وحضور الجسد الشكلي ذي التمدد التعبيري الطاقي على مسطح أعماله. ويستعرض "أيمن حلبي" منجزاً تصويرياً يدفع فيه بكامل الشكلانية، واستحضار هيبتها وجل تعبيراتها، داخل حيزات تفاعلية، تشحذ طاقات الشكل الذاتية وبثها، بما يدفع المتلقي للاستثارة الفكرية والوجدانية، ومصاحبة عناصر العمل بصرياً وحسياً واستقبال الطاقة، عبر تنويعات الجسد الإنساني وحالاته، كتلخيص لكل شيء في الحياة ورمزية لذلك ومعادلة لتمازج الحالات الإنسانية (ما بين الخير والشر والصعود الطاقي الشكلاني والطزاجة الأسلوبية والتقنية). حيث يمثل الفنان "معماراً فكرياً رصيناً" يدفع بين ثنايا نصوصه البصرية بفيض تعبيري كرافض ومدد فكري لمفهومه حول الحالات الإنسانية وطرق تمثيل الجسد والوجوه الآدمية وتشابكات حالاتها، في إطار بحث مكين ثاقب يكشف عن فرادة أسلوبية وخصوصية ذاتية تفرقه عن أقرانه، عبر توظيف عناصر وكتل لونية وخطوط انفعالية تجبر المتلقي على التعمق والاستغراق والتفاعل والتجاوب والغوص في تلك المشاهد الدرامية، التي تكثف توجه الفنان نحو قدرات السرد البصري المرتبط بالمحتوى الفكري الخاص، وطرقه الحداثية المبتكرة ذات التعبير الشاعري في التناول، وقدرات التفكير الغنائية اللونية المندفعة من مزاج فني خاص منحاز لتسطير الحداثية والمشهديات البصرية ذات الهوية والخصوصية والحسي الوجداني، لينطلق مرجوع ذلك لما يتمتع به الفنان من قدرات إبداعية تفاعلية صيرورة مع التقنية والوسائط وفق مفاهيم محددة عززت الفعل الإبداعي والحرية لدي الفنان، وتحفيز مكتنز الفنان ومخزونه التصوري لتدشين توجهات تعبيرية بموازين حداثية تنطلق من جذوره في تدفق إبداعي رصين داعم لأفكاره. هي جملة أعمال أسست على لغة بصرية متدفقة متأملة في مدارات الحالات الإنسانية وإشكاليات صياغة الجسد الإنساني، والإفصاح عن الطبيعة البشرية وتمازج حالاتها في مناخ درامي معطر بمشهدية مفاهيمية مدعومة بعناصر التشكيل الدرامية من (خطوط وكتل وظلال وأضواء وحركة إيقاعية) لبث رسائل وبوح وجداني نابض بالحياة عبر ضربات الفرشاة الراديكالية الحيوية الصيرورة، لتصدير التوهج والجدة والتفرد، والإفصاح عن المعنى الذي يؤطره الفنان نحو التنقيب عن الحقيقة. وتدشين أفكار بصفة عالمية معاصرة، ورؤية تنطلق من ذاتيته ومزاجه الخاص المنغمس في هوية ثقافية ومجتمعية، عبر اتباع نهج مفاهيمي، يرتكل إلى تعزيز المفهوم والمعاني والأفكار وتصدير العواطف، والتلخيصات الموحية التي تجتر حواس ووجدانية المتلقي داخل تجهيزاتها الفراغية الفاعلة. * الأستاذ بكلية التربية الفنية المساعد - جامعة حلوان توزيعات الجسد وحالاته الإنسانية لدى أيمن حلبي توزيعات الجسد وحالاته الإنسانية لدى أيمن حلبي