الحرص على تحقيق السّلام الإقليمي الدائم سيثمر نتائج بناءة وعظيمة حتى وإن لم تدعمه القوى العالمية، أما عدم الحرص فإنه سوف يعود بالمنطقة ومجتمعاتها لحالة الصراع والنزاع المستنزف للجميع حتى وإن لم تؤيده وتسعى له القوى العالمية.. صناعة السَّلام مسألة غاية في التعقيد خاصة عندما تكون عوامل الاختلاف والافتراق والتنافر بين القوى المتنازعة تفوق عوامل التقارب والجذب والالتقاء. والقول هنا بأن صناعة السَّلام مسألة غاية في التعقيد يعني بالضرورة بأن هناك إمكانية ومساحة متاحة -وإن كانت محدودة- لذلك السَّلام المنشود مهما كان حجم الاختلاف والافتراق والتنافر خاصة إن حضرت الحكمة، وتغلبت العقلانية، وأعليَ من شأن القرار الرشيد، وتقدمت المصلحة العامة وتبادل المنافع المشتركة. فإذا أنزلنا هذه المعادلة السياسية على الشأن الإقليمي -منطقة الشرق الأوسط- حيث المنافسة السياسية تتقدم على التعاون بين القوى الإقليمية، والصراعات الفكرية والأيديولوجية تهدد استمرار التهدئة المتأرجحة بين الأقطاب الإقليمية، والنزاعات المسلحة المحدودة تنذر بمزيد من الحروب المستقبلية المهلكة لجميع الأطراف الإقليمية، فإننا نجد أنفسنا أمام حالة إقليمية صعبة ومعقدة ومركبة وخطرة تتطلب حلولاً سريعة قبل أن تتصاعد لتصل لمرحلة اليأس المنتجة لحالة من الدَّمار والخراب غير المحدود اقليمياً ودولياً. وتتضاعف تبعات هذا الدَّمار والخراب بما يتماشى وأهمية الإقليم -الشرق الأوسط- بموقعه الجغرافي، وثرواته العظيمة، وثقافاته العريقة، وحضاراته الثرية، وتاريخ شعوبه واعراقه المختلفة والمتنوعة، وأهمية دوله في السياسة الدولية والعالمية. نعم، إن صناعة السَّلام تصبح مطلباً رئيسياً لوقف حالة السير نحو المجهول المهلك قياساً على أهمية الإقليم ومكانة دوله، وتتضاعف مطالب السَّعي نحو السَّلام لضمان استمرار تمتع المجتمع الدولي –القريب والبعيد– بحالة الرفاه الاجتماعي الذي يعيشه، واستمرار النمو الاقتصادي العالمي الذي يسعى له، والمحافظة على حالة الأمن والسلم والاستقرار الدولي. نعم، إننا نتحدث عن الحكمة التي يجب ان تحضر، والعقلانية التي يجب أن تغلب، على المستويين الإقليمي والدولي، إن أراد الجميع السَّير نحو المستقبل البناء، وتحقيق السَّلام المنشود، الذي يحقق للمجتمعات رفاهيتها وتنميتها، وللدول أمنها وسلمها واستقرارها. وهذه الحكمة والعقلانية المطلوبة لصناعة السّلام الإقليمي –بمنطقة الشرق الأوسط– حضرت بوعي وإدراك بالبيان الثلاثي المشترك –عن المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية الصين الشعبية– الذي صدر في بكين بتاريخ 10 مارس 2023م الذي تضمن –فيما تضمن– الرغبة في حل الخلافات، السعودية الإيرانية، من خلال الحوار والدبلوماسية في إطار الروابط الأخوية، والالتزام بمبادئ ومقاصد ميثاقي الأممالمتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، والمواثيق والأعراف الدولية. نعم، لقد مثَّل هذا البيان الثلاثي المشترك نموذجاً جلياً للمساعي الحسنة الراغبة في صناعة السلام بين الأطراف الدولية، وبما يعزز حالة الأمن والسلم والاستقرار الإقليمي والدولي، وبما يحقق ويخدم المنافع المشتركة والمصالح العامة لجميع الأطراف الإقليمية والدولية. نعم، هذا البيان الثلاثي المشترك يعبر بجلاء عن رغبة جميع الأطراف بتعزيز حالة الأمن والسلم والاستقرار الإقليمي والدولي، إلا أنه في نفس الوقت يعبر بوضوح عن التداخلات السياسية على المستويات الإقليمية والدولية والعالمية. فالأطراف السَّاعية لحل الخلافات القائمة فيما بينها أطراف إقليمية –المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية–، بينما الطرف المستضيف للمباحثات بين القوتين الإقليميتين طرف دولي مؤثر في حركة السياسة العالمية وهو جمهورية الصين الشعبية. وحيث ان هذه الأطراف الثلاثة أعلنت في بكين توصل الطرفين الإقليميين –المملكة وإيران– إلى اتفاق يضمن تعزيز حالة الأمن والسلم والاستقرار الإقليمي، فإن إعلانها هذا مهم جداً، ليس فقط للطرفين الاقليمين، وإنما لجميع أطراف المجتمع الدولي والعالمي، انطلاقاً من أهمية ومكانة أطرافه الدولية الثلاثة في السياسة الإقليمية والدولية. فإذا أضفنا إلى أهمية هذه الأطراف الدولية الثلاثة في السياسة الإقليمية والدولية، حالة المنافسة الدولية في النظام العالمي، وحالة الصراع الفكري والايديولوجي بين القوى الكبرى في المجتمع الدولي، وحالة النزاعات المسلحة القائمة في أوروبا، فإننا نجد أن حالة السَّلام الإقليمي المستهدفة بالبناء الإيجابي قد تتأثر بشكلٍ مباشر بحالة المنافسة والصراعات والنزاعات الدولية القائمة. وهنا يتأتى علينا طرح التساؤل الآتي: إلى أي مدى قد يتأثر السَّلام الإقليمي بالصراعات الدولية والعالمية؟ إنَّ الذي يفرض علينا هذا التساؤل هو ردة الفعل الدولية الظاهرة للقوى العالمية –خاصة الولاياتالمتحدة– على البيان الثلاثي المشترك؛ بالإضافة لطبيعة ونوعية السياسات الروسية الموجهة نحو منطقة الشرق الأوسط وما يجمعها من تحالفات متقدمة مع بعض دوله الرئيسية. نعم، إننا إذا افترضنا أن جمهورية الصين الشعبية هدفها وغايتها الرئيسية تعزيز حالة الأمن والسلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط عن طريق الدبلوماسية والحوار المشترك، وإذا افترضنا أن جمهورية الصين الشعبية ليس لديها النيَّة بالتواجد الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط على حساب الولاياتالمتحدة، فإن هذه الافتراضات لا تقبلها الولاياتالمتحدة انطلاقاً من شكوكها الدائمة والمستمرة تجاه جمهورية الصين الشعبية حيث تراها دولة طامحة للتوسع الإقليمي في بعض أقاليم ومناطق العالم حتى وإن كان على حساب المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، هذا بالإضافة لإيمان الولاياتالمتحدة الدائم بأن جمهورية الصين الشعبية تسعى لتغير بنيان النظام العالمي من أحادي القطبية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، أو على أقل تقدير سعيها لمنافسة الولاياتالمتحدة على قيادة النظام العالمي. وهذه الافتراضات الأمريكية السلبية تجاه سياسات جمهورية الصين الشعبية انعكست سلباً على التصريحات الأمريكية الرسمية وشبه الرسمية تجاه البيان الثلاثي المشترك – السعودي الإيرانيالصيني. إن السلبية التي أبدتها التصريحات الأمريكية تجاه صناعة السلام والتهدئة الدائمة في منطقة الشرق الأوسط من شأنها أن تؤثر سلباً على السياسة الإقليمية نظراً للمكانة الكبيرة جداً للولايات المتحدة في السياسة العالمية، بالإضافة لعلاقاتها الاستراتيجية والمتقدمة مع عدد كبير من مجتمعات ودول منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي فإن السَّلام الإقليمي على جميع المستويات قد يتأثر صعوداً أو نزولاً بحسب تصاعد منافستها وصراعها مع جمهورية الصين الشعبية على المستويات الإقليمية والدولية والعالمية. وفي مقابل هذه النظرة الأمريكية السلبية للمساعي البناءة والإيجابية لجمهورية الصين الشعبية يأتي الموقف العام لجمهورية روسيا الاتحادية إيجابياً ليدعم حالة السلام الإقليمي المستهدف بين المملكة وإيران. وعلى الرغم من إيجابية هذا الموقف الروسي تجاه البيان الثلاثي المشترك وما نتج عنه من أهداف وغايات نبيلة من شأنها تعزيز حالة الأمن والسلم والاستقرار الإقليمي، إلا أن سياساتها المعلنة المتضمنة دعم وتعزيز القدرات العسكرية لجمهورية إيران، ومن ذلك بيعها مقاتلات حربية حديثة جداً، من شأنه أن يخل بحالة السَّلام الإقليمي التي أشار لها البيان الثلاثي المشترك –السعودي الإيرانيالصيني– وذلك بتغير ميزان القوى الإقليمي بين الأطراف الإقليمية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط مما قد يعيد سياسة سباق التسلح بين الأطراف الإقليمية ويهدد المساعي الدولية الهادفة لبناء وتعزيز حالة السَّلام الإقليمي. نعم، إننا إذا نظرنا إلى هذه المواقف الدولية المؤثرة في حركة السياسة العالمية –للولايات المتحدةوروسيا– تجاه السلام المستهدف في منطقة الشرق الأوسط، فإننا نجد أنفسنا أمام تناقضات سياسية صارخة، وتنافس استراتيجي متصاعد، وصراع معلن على قيادة النظام العالمي، مما قد يؤثر بشكل أو بآخر على صناعة السَّلام المستهدف التي أشار لها البيان الثلاثي المشترك، أو يؤثر سلباً على حالة التهدئة الهشة القائمة في منطقة الشرق الأوسط. وفي الختام من الأهمية القول بأن الضَّامن الرئيس لحالة السّلام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط يتمثل بالنيّة الصادقة والرغبة الحقيقية للقوى الإقليمية في المحافظة على حالة الأمن والسلم والاستقرار، والسعي لحل خلافاتها السياسية والأمنية والاستراتيجية بالحوار الدبلوماسي والمفاوضات المباشرة بينها، والالتزام بقواعد القانون الدولي المصادق عليها من جميع الأطراف الدولية. نعم، إنّ إقامة السَّلام الإقليمي الدائم، والوفاء بالتعهدات المتفق عليها بين الأطراف الموقعة، تتطلب الالتزام التام بسياسة حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والابتعاد عن السلوكيات الهدامة والممارسات المنحرفة، وعدم دعم أو تبني أو تمويل أو إيواء العناصر المتطرفة والتنظيمات والجماعات الإرهابية. إن الحرص على تحقيق السَّلام الإقليمي الدائم سيثمر نتائج بناءة وعظيمة حتى وإن لم تدعمه القوى العالمية، أما عدم الحرص فإنه سوف يعود بالمنطقة ومجتمعاتها لحالة الصراع والنزاع المستنزف للجميع حتى وإن لم تؤيده وتسعى له القوى العالمية.