في عام 2022 العالم تغيّر رأساً على عقب والتحالفات تبدلت.. وموازين القوى اختلّت.. وأصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم.. هكذا هي السياسية المصالح دائماً تتصدر.. ووفق هذه الاستراتيجية تحركت الدبلوماسية السعودية الفاعلة طوال عام 2022 بحكمة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في ظل التجاذبات العالمية والمقاربات الدولية. مع إطلالة العام الجديد 2023 والذي ستدشنه المملكة العربية السعودية بخطى راسخة بعد تحقيق أهدافها باقتدار في العام المنصرم من خلال عقد ثلاثة قمم تاريخية سعودية-خليجية-عربية مع الصين القوة الاقتصادية الصاعدة عالمياً، هذه القمم التي غيرت قواعد اللعبة في العالم والتي ستكون لها انعكاسات إيجابية لإحلال السلام في المنطقة والسلم في العالم، في ظل التجاذبات والمنافسة السياسية الاقتصادية بين الصينوالولاياتالمتحدة، والتي تعتبر من أبرز العوامل المؤثرة على حركة السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين. * مسار استراتيجي سعودي في 2023 ورسمت المملكة مساراً استراتيجياً مع الصين من خلال المواءمة بين رؤية 2030 ومبادرة الحزام والطريق، والتي قدّمت الصين من خلالها نموذجها الخاص للعولمة، حيث باتت مبادرة الحزام والطريق، جزءًا أساسيًّا من سياسة الصين الخارجيّة إلى حد إدراجها ضمن الدستور الخاص بالحزب الشيوعي الصيني. مبادرة الحزام عملياً بنيت على أنقاض ما كان يُعرف بطريق الحرير والذي يمثّل مجموعة من خطوط التجارة التي نشأت خلال القرن التاسع عشر، بما سمح يومها بربط الصين تجاريًّا بالأسواق التي تشملها اليوم المبادرة، التي تسمح بخلق خطوط التجارة والنقل التي يحتاجها غزو الإنتاج الصيني لأسواق العالم. وتسعى الإدارة الصينية لاستكمال مشروع "طريق الحرير الجديد" في نهاية 2030، وهي المدة الكافية حسب توقعاتها لتأمين وصولها بل واكتساحها الأسواق الأوروبية، وأيضاً الأسواق التي تحتكرها البلدان الأوروبية منذ الحقبة الاستعمارية. * الحراك الصيني المحموم لقد تحركت بكين في الربع الساعة الأخيرة من العام الميلادي المنصرم، في إطار تعظيم الاستراتيجيّة الصينيّة في المنطقة، فالصين باقتصادها الضخم والمنتج تمثّل اليوم أكبر مستورد لمصادر الطاقة في العالم، ويأتي نصف نفطها المستورد من المنطقة العربيّة بالتحديد. وفي ظل التوتّرات التي خيّمت طوال السنوات الماضية على أسواق النفط العالميّة، بعد الحرب الأوكرانية-الروسية، حيث عززت الصين نفوذها بقوة وفق ضرورة استراتيجيّة ماسة، في حسابات أمن الطاقة الصيني، وضمان سلاسل الإمدادات النفطية والذي يتصل بدوره بإنتاجيّة القطاعات الصناعيّة الصينيّة. وكون استراتيجيّة الحزام والطريق ترتكز أساسًا على الاستثمار في خطوط النقل التجاريّة البحرية والبنية التحتيّة المسهّلة للتجارة الدوليّة، فمن الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط حلقة وصل استراتيجيّة في هذه المبادرة وربطه بخطوط إمدادها التجاريّة في أفريقيا وأوروبا وشرق أسيا، بات المحور الاستراتيجي التي يعتمد عليها نجاح مشروع مبادرة الحزام والطريق. ففشل الصين في تعزيز حضورها في هذه النقطة الجغرافيّة بالتحديد، سيعني الفشل في استكمال شبكة خطوط الإمداد التي تراهن الصين على تكاملها بين القارّات الثلاث. * عصر جديد في المنطقة زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة، شهدت توقيع العديد من الاتفاقات والتفاهمات العديدة حيث أكد خبراء صينيون وعرب أن العلاقات بين الصين والشرق الأوسط دخلت "العصر الذهبي" الجديد، حيث أصبحت السعودية، واحدة من "دائرة الشركاء وأصدقاء" الصين، في الحلقة الضيقة، ما يرمز إلى اختراق كبير في استراتيجية الصين بالشرق الأوسط كونها انتهجت سلوك سياسي محايد من خلال النأي بالنفس عن النزاعات المحليّة الإقليميّة، ومحاولة البناء على نقاط تقاطع المصالح مع كل طرف من أطراف النزاع. أسست القمم السعودية خليجية والعربية مع الصين والتي استضافتها الرياض، لانطلاقة جديدة في العلاقات بين بكين ودول المنطقة، مع توقيع عدد من الشراكات الاستراتيجية والاقتصادية، والتأكيد الصيني على دعم دول الخليج للحفاظ على أمنها. وشهدت القمم تبادلاً للرؤى بشأن الأوضاع الإقليمية والعالمية، مع تأكيد متبادل على مراعاة المصالح الجوهرية للطرفين، والتشديد على ضرورة تعزيز التعاون واستراتيجيات النمو، والالتزام بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. وفيما شدد الرئيس الصيني على دعمه لأمن دول الخليج، كما أكدت دول الخليج حرصها على تعزيز الشراكة الثنائية والتزامها بمبدأ الصين الواحدة. وأكد الرئيس الصيني، أن بلاده والدول العربية يتبادلان "الدعم الثابت" في القضايا المتعلقة بالمصالح الحيوية للجانب الآخر. في النتيجة، تمكّنت الصين من حصد ثمار هذا التوسّع في الحضور الاستثماري والاقتصادي في المنطقة، وخصوصًا على مستوى علاقاتها مع الدول الخليجيّة والعربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. فالصين باتت اليوم الشريك الاقتصادي الأوّل للدول العربيّة، سواء من خلال حجم صادراتها الضخم إلى هذه الدول، أو جهة استحواذها على حصّة الأسد من استيراد النفط. * تحوط أميركي بيد أن الإدارة الأميركية خصصت في مشروع الميزانية الأميركية لعام 2023 مبلغ 1.8 مليار دولار لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. جاء ذلك في بيان نشر على الموقع الإلكتروني للجنة اعتمادات الميزانية بمجلس الشيوخ الأميركي، حيث جاء في ملحق الميزانية "تقديم أكثر من 1.8 مليار دولار لدعم منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة لمواجهة النفوذ المتزايد لجمهورية الصين الشعبية في البلدان النامية". ومن الملاحظ أيضاً أن مشروع الميزانية لعام 2023 تضمن "الدفاع عن الديمقراطية ومواجهة الصين من خلال تمويل منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة". وتتفوق الصين على منافسيها العالمين في أكثر من مجال، أبرزها: تكنولوجيا الاتصالات خاصة تقنيات شبكة الجيل الخامس. سباق الأسلحة المتطوّرة مثل منظومة صواريخ هايبر سونيك، ممرات اقتصاد السوق العالمي مثل مشروع "طريق الحرير الجديد". وتتعاظم قوّة الصين الاقتصادية لتصبح "أكبر اقتصاد في العالم"، حسب تصنيف البنك الدولي. وبعد توقّع الأخير، أنّ الصين ستصبح الاقتصاد الأضخم بين عامي 2020 و2030. وفي وقت قياسي لا يتجاوز العقدين من الزمن تحولت الصين ذلك العملاق الآسيوي من دولة نامية إلى أكبر تهديد للهيمنة الأميركية على العالم. * سياسة التهدئة وليس هناك رأيان أن اتباع الصين لسياسات داخلية وخارجية حكيمة يحقق لها احتراماً كبيراً على الصعيد الدولي ويجعل أكثر شعوب العالم تتطلع لزيادة فعاليتها السياسية على الصعيد الدولي لأن في ذلك إحياء لبارقة أمل لوضع دولي أكثر عدالة وتوازناً وأمناً واستقراراً. وفي واقع الأمر أن صعود الصين القوي لا ينبغي أن يصرف الأنظار عن عوامل أخرى ستؤثر حتماً في مستقبل العالم، وفي مقدمتها صعود قوى أخرى منافسة مثل الهند، وروسيا بدرجة ما تتوقف على مآلات الصراع الدائر حول أوكرانيا وسيناريو نهاية هذا الصراع، كما لا ينبغي كذلك غض الطرف عن ارتهان تشكل النظام العالمي القادم بالتحدي التايواني وكيف للصين أن تديره وتخرج بأقل الخسائر، وكيف تتفادى الزج بها في أتون صراع استنزافي لقواها وقدراتها. بلاشك فإن الحقيقة الواحدة المؤكدة في عالم اليوم أننا بصدد نظام عالمي بلا قيادة، وأن مقعد قيادة النظام يعاني فراغاً يفسر الكثير من الأزمات التي تعاني منها مناطق ودول عدة، وأنه لا توجد دولة قوية بما يكفي لقيادة العالم كما كان حال الولاياتالمتحدة قبل عقدين من الزمن على سبيل المثال، والحقيقة الأخرى أن مستقبل النظام العالمي سيتشكل إلى حد كبير من خلال نتائج الصراع في المحيطين الهندي والهادي، حيث يتمحور الصراع الجيوستراتيجي المتصاعد بين الولاياتالمتحدة وحلفائها من ناحية والصين من ناحية ثانية. والواقع يقول أيضاً إن التعددية تتسلل إلى المشهد الدولي تدريجياً، فالعالم لم يعد يتمحور حول القيادة الأميركية، بل هناك توجهات متنامية، لاسيما في إفريقيا والشرق الأوسط، نحو الصين وروسيا، وهناك بوادر تفكك في الكتلة الأوروبية، التي يصعب أن تخرج من حرب أوكرانيا كما دخلتها، والأرجح أنها ستشهد واقعاً جيوستراتيجياً جديداً يتماشى مع ما تؤول إليه الأمور في هذه الحرب المفصلية تاريخياً أيام عام 2023 حبلى بالأحداث والتغيرات المتسارعة، التي يصعب توقع الكثير منها، ولكن المؤكد في ذلك كله أن العالم يمضي في اتجاه مغاير لكل ما روجت له الأدبيات السياسية بشأن العولمة والتجارة الحرة وغير ذلك. * الشراكة تقود العالم وأخيراً فإن الشراكة التي تقودها السعودية بتبني المفهوم الجديد لأمن الطاقة وضمان سلال الإمدادات النفطية، ويشكل المشروع الأخضر باعتبار أنه ثمرة لحركة الاستثمار المسؤول اجتماعياً، من أجل أن يعمل على ترسيخ مفهوم بناء اقتصاد حديث متنوِّع مع تنمية بيئية، ولا يقف الأمر عند حدود الربحية، وإنما عبر تحمّل المسؤولية الاجتماعية تجاه البيئة والدفاع عنها. إنها القمم "الثلاث" مع الشريك الموثوق والذي يعتبره المراقبون. الحدث الأبرز في 2022 بعد الحرب الأوكرانية الروسية ويؤكدون أن الصين.. القوة العالمية الصاعدة بامتياز في عام 2023.