نعم، إن استراتيجية "استنزاف الخصوم" التي تتبعها الولاياتالمتحدة تجاه منافسيها المحتملين في المجتمع الدولي تعمل بذكاء فكري وعلمي شديد، يهدف لإبقائها مُهيمنة عالمياً، بينما تعمل على جعل جميع المنافسين - أصدقاء وخُصوم - بعيدين تماماً عن منافستها في جميع المجالات.. ضمان البقاء قُطباً أحادياً مُهيمناً على السياسة العالمية، ومحركاً أولاً لحركتها الدولية، ومؤثراً رئيسياً في طبيعة ونوعية ومستوى ومجالات تفاعلاتها الإقليمية والدولية والعالمية، يتطلب استراتيجية عميقة في أهدافها، وبعيدة في غاياتها، ومحترفة في تنفيذها، وصلبة في تطبيقها مهما كانت الظروف والأحوال. هكذا هي عقلية القوى العظمى سابقاً، وهكذا هي عقلية الدول الكُبرى حالياً، حيث التفوق على الآخر المُنافس والمُتطلع للصعود هدف يجب تحقيقه، والهيمنة على المجتمع الدولي والعالمي غاية يجب الوصول لها والمحافظة عليها. نعم، هكذا هي طبيعة المنافسة الدولية بين القوى العظمى والدول الكبرى، حيث تُسخر الإمكانات والقدرات المتاحة، وتستخدم الأساليب والسلوكيات المشروعة وغير المشروعة، وتُوظف الأدوات الأخلاقية وغير الأخلاقية، وتُنتهك القوانين الموضوعة والأنظمة المصادق عليها، لتحقيق سياساتها العليا واستراتيجياتها المعتمدة الهادفة جميعها لتحقيق الهيمنة الأحادية الشاملة، أو المنافسة الثنائية أو المتعددة، على السياسة الدولية. فإذا كانت هذه خصائص وسمات عامة لطبيعة المنافسة الدولية الشرسة بين القوى العظمى في الماضي البعيد والقريب، فإننا نشهدها حقيقةً ماثلة بوقتنا الحاضر في سياسة واستراتيجية الولاياتالمتحدة تجاه القوى الدولية الكُبرى - روسياوالصين - التي تعمل بثبات عظيم، وجهد كبير جداً، للمحافظة على مكانتها العالمية كدولة مُهيمنة على السياسة الدولية، والتي تسعى في نفس الوقت للمحافظة على شكل وبنيان النظام الدولي القائم، أحادي القطبية الأميركية. نعم، فكما كانت سياسات الهيمنة العالمية في الماضي البعيد والقريب، هكذا هي سياسة الولاياتالمتحدة مُنذُ أن أصبحت قُطباً عالمياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتضاعفت هذه السياسة، وتوسعت استراتيجيتها، مُنذُ أن أصبحت القوة الأعظم والقطب الأوحد في السياسة العالمية عام 1991م. نعم، فالولاياتالمتحدة التي وصلت لهذه المكانة العالمية العظيمة في السياسة الدولية، حتماً سوف تعمل ما يمكنها عمله لتثبيتها بكل الطرق والوسائل والأساليب، والمحافظة عليها مهما كلفها من قدرات وإمكانات وموارد، ووقايتها من العوامل المؤدية لتراجع مكانتها لحساب منافسيها الدوليين المُحتملين. نعم، لقد كانت سياستها واستراتيجيتها واضحة ومُباشرة مُنذُ تلك اللحظة: استمرار عجلة التقدم والتفوق العلمي والتقني والتكنولوجي، وتعزيز القدرات والإمكانات والموارد، ومنع الدول المتطلعة للمنافسة العالمية من تحقيق أهدافها على حساب الولاياتالمتحدة، إنها أهداف واضحة ومُباشرة، حيث الأول والثاني يتعلقان بالسياسات الداخلية للولايات المتحدة، بينما الهدف الثالث - وهو الهدف الرئيس - يتعلق بالسياسة الدولية حيث غاياته وقف صعود المُنافسين المحتملين لمكانة الولاياتالمتحدة العالمية وهؤلاء المنافسين تم تعريفهم تحديداً بالصين - الخطر الأصفر - حيث تعتبر المنافس الأول، وروسيا - الوريث ل"الخطر الأحمر" الذي انهار وتفككت أجزاؤه حيث صُنفت بالمنافس الكامِن، وثالثاً الحضارة الإسلامية "الخطر الأخضر" حيث تعتبر منافساً أيديولوجياً وثقافياً وحضارياً للأيديولوجية والثقافة والحضارة الغربية المسيحية. نعم، هكذا تم تسمية وتصنيف وتعريف المُنافسين المحتملين لمكانة الولاياتالمتحدة العالمية، وعلى هذه الأسس وضعت الولاياتالمتحدة سياساتها، وصممت استراتيجياتها، لتتمكن من مواصلة السير وحيدة في قيادة المجتمع الدولي، ولتمنع منافسيها المحتملين من مزاحمتها في إدارة السياسة العالمية. وهنا ذهبت الولاياتالمتحدة خطوات للأمام حيث عملت على وضع تصنيف صلب يحدد درجات ومستويات وقدرات هؤلاء المنافسين، وطرق وأدوات وأساليب ووسائل التعامل مع كل منافس من هؤلاء المنافسين. نعم، إنهم جميعاً منافسين محتملين لمكانة الولاياتالمتحدة - بحسب وجهة نظرها، إلا أن أقربهم للمنافسة بناء على قدراته وإمكاناته هي جمهورية الصين الشعبية حيث التنمية الاجتماعية المتسارعة، والنمو الاقتصادي القوي، والتقدم الصناعي الجيد، والقدرات المالية الضخمة، والبناء الأمني والعسكري المتصاعد، والاستقرار السياسي. ثم يأتي "الخطر الأخضر" ثانياً في المنافسة حيث الاختلافات الحضارية والفكرية والثقافية، والتاريخ الصعب من الصراعات والصدامات العسكرية، والجوار الجغرافي بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. ثم تأتي روسيا - وريثة الإمبراطورية الأرثوذكسية والشيوعية السوفيتية والاشتراكية الماركسية - ثالثاً في المنافسة حيث القدرات والإمكانات الكامِنة، والجِوار الجُغرافي، والإرث الاستعماري تجاه أوروبا تحديداً. نعم، لقد اُستدعي التاريخ البعيد والقريب، ودُرس الحاضر، عند تصميم هذه التصنيفات للمنافسين المحتملين، واعتمدت السياسات ووضعت الاستراتيجيات للتعامل مع كل منافس من هؤلاء المنافسين بما يتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم وتوجهاتهم وسياساتهم بشكل دقيق ومباشر حرصا من الولاياتالمتحدة على إبقاء هؤلاء المنافسين بعيدين قدر الإمكان عن المكانة العالمية للولايات المتحدة. وبما أن هذه السياسات والاستراتيجيات تختلف باختلاف تصنيف المنافس، فإننا نجد جزأً منها واضحاً ومباشرا يمكن ملاحظته والاشارة إليه، وجزأً آخر غير مرئي ولا يمكن ملاحظته، إلا أنها جميعها تعمل على ضمان إبقائهم بعيدين عن منافسة الولاياتالمتحدة. نعم، لقد تبنت الولاياتالمتحدة استراتيجية "استنزاف الخصوم" لإنهاك منافسيها وإشغالهم بقضايا جانبية عن قضيتهم الرئيسة المتمثلة بتحقيق مكانة عالمية مرموقة في السياسة الدولية تمكنهم من التأثير في حركتها العالمية. فالصين المنافس الأول لمكانة الولاياتالمتحدة العالمية واجهت الكثير من السياسات الأميركية الصعبة في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية والحقوقية والأمنية والعسكرية والتقنية والتكنولوجية وغيرها من مجالات بهدف وقف تقدمها وتعطيل حركتها واستنزاف قدراتها بعيداً عن أهدافها التنموية المتسارعة. وهذه السياسة الأميركية الصعبة تجاه الصين خلال الثلاثين عاماً الماضية أُضيفت لها سياسة جديدة أشد شراسة بداية من 2023م والتي تمثلت بإعلان اليابان رغبتها بتطوير قدراتها العسكرية لمستويات تجعل منها قوة عظمى في منطقة شرق آسيا. فهذا التوجه الياباني، المؤيد والمدعوم تماماً من الولاياتالمتحدة، يُمثل تحدياً استراتيجياً حقيقياً للصين، ويمثل استنزافاً كبيراً للقدرات والإمكانات والسياسيات والاستراتيجيات الصينية، واشغالاً سياسياً وفكرياً لها عن مشروعاتها التنموية والاقتصادية والاجتماعية. أما العالم الإسلامي المنافس الثاني للمكانة العالمية للولايات المتحدة فقد تم اشغاله بالنزاعات الداخلية، والصراعات البينية، والتقسيمات الطائفية والمذهبية والفكرية، وتواجد على أراضيه الجماعات والتنظيمات والمليشيات الإرهابية، حيث استنزفت الموارد والمقدرات، وانشغلت الدول والحكومات بقضايا الأمن على حساب قضايا الاقتصاد، والتنمية، والبناء، والتطوير. وبالإضافة لهذه القضايا الرئيسة، فقد كان للإرث الاستعماري القديم والجديد، والتواجد العسكري الغربي في المناطق والاقاليم الإسلامية، دور رئيس في استنزاف الموارد والمقدرات. أما روسيا، المُنافس الثالث للمكانة العالمية للولايات المتحدة، فقد واجهت سياسات أميركية صعبة خلال الثلاثين عاماً الماضية في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والأمنية والعسكرية والتقنية والتكنولوجية وغيرها من مجالات مما أبطأ من تقدمها، وأخر سرعة تنميتها وإعادة بناء اقتصادها. وهذه السياسة الأميركية تجاه روسيا خلال الثلاثين عاماً الماضية تصاعدت مُنذُ بداية 2023م عندما أيدت ودعمت وساندت الولاياتالمتحدة توجهات ألمانياواليابان لإعادة بناء قدراتهما العسكرية بما يمكنهما من أن يكونا ضمن القوى العظمى القادرة على التأثير في السياسة الإقليمية والدولية بما يوازي تأثير وقدرة روسيا. وهذا التوجه الجديد لألمانياواليابان - المؤيد والمدعوم تماماً من الولاياتالمتحدة - يمثل استنزافاً حقيقياً واشغالاً مباشرا للقدرات والسياسات الروسية شرقاً وغرباً. وفي الختام من الأهمية القول إنه على الرغم من تعدد وتنوع سياسات الاستنزاف، إلا أن أعظم مجالات التأثير التي تعمل عليها استراتيجية "استنزاف الخُصوم" تتمثل في "استقطاب العقول" خاصة من المُنافسين المُحتملين؛ لأنها الأساس الذي يبني المجتمعات، ويطور الاقتصادات، ويبدع بالاختراعات، ويصنع التقنيات والتكنولوجيات المتقدمة، وينقل علوم ومعارف الثقافات والحضارات، حيث ترتقي مكانة الدول المستقطبة، وتتراجع مستويات الدول الفاقدة لعقول أبنائها. نعم، إن استراتيجية "استنزاف الخصوم" التي تتبعها الولاياتالمتحدة تجاه منافسيها المحتملين في المجتمع الدولي تعمل بذكاء فكري وعلمي شديد يهدف لإبقائها مُهيمنة عالمياً، بينما تعمل على جعل جميع المنافسين - أصدقاء وخُصوم - بعيدين تماماً عن منافستها في جميع المجالات. هكذا هي طبيعة المنافسة الدولية حيث الرغبة في التفوق والهيمنة والصدارة العالمية هي الأصل والهدف والغاية في جميع الأوقات والظروف والأحوال.