ملحمة التأسيس العظيمة للدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، لم تكن حدثاً عابراً، بل عبقرية تخطيط وهمّة عالية كانت تسكن قلب هذا المؤسس. فالإمام محمد بن سعود وُهب رجاحة العقل، والفطنة، إذ استشرف بِحسٍّ عميق ورصين استحقاقات المستقبل، فأيقن أنَّ الشّتات فوضى وضياع. ومع ذلك فليست تلك السجايا فقط هي ما يميّزه -رحمه الله- فشخصيته من التنوع ما يجعل الإفاضة فيها بحاجة لمساحة أرحب. نعم هي ملمح متفرّد سيبقى نبراساً للأجيال المتعاقبة على مرّ السنين؛ فهو درس عظيم وبالغ القوة والتأثير لا يمكن اختزال أثره في منحى معيّن؛ إذ إنّه مثال يجسّد عمق التفكير والرؤية المستقبلية الشاسعة تبصُّراً ووعياً، ويؤكد على عظمة اليقين والإيمان بالهدف والقدرة على تحقيقه بعد توفيق الله. لكن الملمح الذي لا يقلّ أهمية وعمقاً؛ هو الامتداد التاريخي لهذه الأسرة وللدولة السعودية ما ينوف على ثلاثة قرون؛ دولة لم يعترِها الوهن أو الضعف أو التقهقر رغم تواضع الإمكانات والقدرات البشرية عند بواكير النشأة، وغرس البذور لملحمة التأسيس الأول للدولة السعودية الأولى؛ في أرض تعاني الشتات والفقر والإجداب والتحديات الأخرى من شح الموارد والفقر والفوضى المصاحبة فضلاً عمن يتربص بهذه الدولة الآخذة في التمدد مدفوعًا بأطماعه وحساباته المختلفة من سيطرة وخلافه. فمحمد بن سعود يملك حسًا إداريًا فطريًا ونظرة مستقبلية ثاقبة؛ ولذلك نجح في قيادة التغيير وأعلن قيام الدولة السعودية الأولى، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ شبه الجزيرة العربية واضعاً بذلك اللبنة الأولى للبناء والوحدة، وهي وحدة -كما يعرفها المؤرخون- لم تعرفها شبه الجزيرة العربية منذ أعوام طويلة. لقد أفضى هذا التأسيس إلى وحدة عميقة متماسكة أصبحت معها مدينة الدرعية عاصمة لدولة مترامية الأطراف، ومصدر جذب اقتصادي واجتماعي وفكري وثقافي، كما ازدهرت التجارة بشكل كبير، ليكون سوق الدرعية أعظم الأسواق في المنطقة، إضافة إلى أن النظام المالي للدولة -كما وصفته كتب التاريخ- بأنه من أفضل النظم التي عرفتها شبه الجزيرة العربية في حينها. هذا الامتداد لهذه الدولة على تعاقب أئمتها حتى عهدنا الحالي الزاهر؛ يؤكد بأن قيم القيادة والإنسانية والحكم في البيت السعودي بما تتضمنه من تقاليد الاحترام والتوقير والعدل والتواضع هي قيم عظيمة ممتدّة؛ وهي سرّ هذا الثبات والنبوغ والتفرّد للحكم السعودي وقيادته.