تعريفات العلمانية اليوم تتعدد بتعدد الخلفيات الفكرية والثقافية والحقول المعرفية والفلسفية وعلماء الاجتماع وعلماء السياسة والنحل والفرق والمذاهب، وتقاطعت ما بين المتكلمين والمؤرخين وعلماء العقيدة والفقهاء والمناطقة والفلاسفة.. معظم الدراسات المتجادل والمختلف، بل والمتنازع عليها بين الثقافات، يحتاج الرجوع فيها إلى تحديد المصطلحات والمفاهيم للموضوع المدروس وذلك باستبعاد عوامل الاختلاف ومسبباته التي تنتج عادة من مستوى التوظيف وتباين الاختلاف في المصطلحات والمفاهيم بين باحث وآخر أو ثقافة وأخرى. والذي قد يأخذ بالموضوع المدروس إلى منحى آخر، وهذا يحدث عادة في الموضوعات التي تتشابك حولها الآراء.. وأقرب مثال على ذلك العلمانية، فإن تحديد المصطلح والمعنى والمفهوم الذي تقوم عليه العلمانية يوضح اللبس المتداخل في التعريف والمفهوم والمصطلح والدلالة مما يستدعي الوقوف المنهجي على دلالات اللفظ وجذعه اللغوي وتتبع أصله الاشتقاقي والذي قد لا تكفي فيه المعاجم وحدها وإنما يدخل معها النحت الثقافي التاريخي، فإذا ما وقفنا على العلمانية التي تداخلت حولها الآراء قبولاً ورفضاً وتوقفاً ونظرنا في مصطلحها فهي كمصطلح تعني دنيويًا غير ديني، ويقابلها بالإنجليزية secular والفرنسية secularise أو laique وهي كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية نسبة إلى (العلم بمعنى العالم) وهو خلاف الديني أو الكهنوتي، وهي اشتقاق مسيحي أساسه وجود سلطة روحية هي سلطة الكنيسة وسلطة مدنية هي سلطة الدولة. وفي مناقشات البرلمان الفرنسي للدستور عام 1946م ورد تعريف العلمانية بأنها تعني حياد الدولة تجاه الدين والفصل بين السياسة والدين.. وفي تعريف آخر ينسب العلمانية إلى العالم أو العالمية وهي نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الإيمان الديني والعبادة الدينية. ومن التعريفات المتداولة: العلمانية secularism وترجمتها الصحيحة (اللادينية أو الدنيوية) وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة (العلم science)، وقد ظهر في أوروبا في القرن السابع عشر، وشاع استخدام هذه الكلمة في اللغة الإنجليزية وعلى نطاق واسع.. أما في اللغة الفرنسية فإن اللائكية تعد من الكلمات الأكثر شيوعًا واستعمالًا، وهي ذات خصوصية فرنسية، وقد ظهر هذا المصلح لأول مرة في القاموس البيداغوجي الصادر ما بين 1882م – 1887م تحت إشراف فردينان بوسان (Ferdinan Buisson). كثيرة هي التعريفات العلمانية التي تقع في لبس فلا تكاد تفرق بين العَلمانية (secularisme) والعِلمانية (scientisme) واللائكية (laicite) ومنها ما يذهب إلى اعتبار لفظة عَلمانية تنسحب على المفاهيم الثلاثة وهو أمر يدل على الخلط لأنه لا يراعي خصوصية كل مفهوم. فالعَلمانية المشتقة من لفظ العالم ظاهرة لازمت تطور الإنسان الذي تأثر بالعلوم والمعارف. ويورد القاموس الإنجليزي الجديد (New English Dictionary) مفهومًا للعِلمانية إذ يرى موري (Murry) أن العِلماني تعني العادات وطريقة التعبير لدى رجل العلم ويرى فريدريك فون هايك صاحب كتاب العلمانية وعلم الاجتماع أن هذا المفهوم تبلور معناه واكتمل مدلوله عندما تكونت الجمعية البريطانية للتطور العلمي (Associationfor Scientific Advance British). ويورد بعض الدارسين كلمات قد تطلق على العلمانية مثل الطبيعة (Naturalisme) والآلية (Mecanisme) ويذهب هايك إلى اعتبار مفهوم العلمانية يتمركز حول التطبيق الميكانيكي (الآلي).. فمدلول العلمانية يعني عزل الدين عن الدولة، وحياة المجتمع وإبقاءه حبيسًا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه، فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما. وفي تعريف آخر (العلمانية ترجمة للكلمة اللاتينية (secular) ومعناها في اللغات الأوروبية لا ديني) ومعنى هذا أن العلمانية في الفكرة القائلة إنه من الممكن دراسة الإنسان والمجتمع كما تدرس الأشياء، على أساس تطبيق وسائل الدرس والملاحظة التي تمارسها العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الاجتماعية. وهناك من يعرف العلمانية بأنها جملة من التدابير النظامية والقانونية، جاءت وليدة الصراع الطويل بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا، واستهدفت فكرة الفصل بين الدين والدولة. وقد أعاد الدكتور محمد أركون أصل المصطلح: العلمانية إلى لفظة (laikos) في اليونانية. وتوصل الدكتور حليم بركات في إطار بحث استطلاعي اجتماعي عميق إلى تعريف للعلمانية موضوعي وشامل بناءً على دراسة اجتماعية علمية ميدانية، إلى أن العلمانية نظام عقلاني يتساوى أمامه جميع أعضاء المجتمع في الحقوق والواجبات ويشمل فصل الدين عن الدولة. وتأتي كلمة (علمانية) secularism من الكلمة اللاتينية saeculum وتعني (العصر أو القرن)، أما في لاتينية العصور الوسطى فإن الكلمة تعني العالم أو الدنيا (مقابل الكنيسة). ويوجد لفظ لاتيني آخر للإشارة إلى العالم، وهو mundsus ولفظة سيكولوم مرادفة للكلمة اليونانية (آيون) aeon التي تعني العصر، أما (موندوس) فهي مرادفة للكلمة اليونانية (كوزموس) cosmos التي تعني الكون مقابل (كيوس) chaos بمعنى فوضى، ومن هنا فإن كلمة (سيكولوم) تؤكد البعد الزماني، أما (موندوس) فتؤكد البعد المكاني. وقد استخدم المصطلح (سكيولار) secular لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عام 1648م، عند توقيع صلح وستفاليا وبداية الدولة العلمانية الحديثة، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بداية لمولد الظاهرة العلمانية في الغرب. ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت تتجه الكلمة نحو مزيد من التركيب دون أن تصل إلى الشمول الكامل. وقد تم تقليص نطاق المصطلح، فأصبح يعني فصل الدين عن الدولة، أي فصل العقائد الدينية عن الحياة العامة. ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح علماني secula: -ينتمي للحياة الدنيا- يهتم بهذا العالم وهناك كلمة أخرى وردت في معاجم اللغة الإنجليزية وهي دي كريستيانايز أي ينزع الصبغة المسيحية عن المجتمع، وهو مصطلح محدد الدلالة لا يصلح إلا للمجتمعات التي تسود فيها المسيحية. ويستخدم مصطلح (علماني) بمعنى (ملحد) في كتابات بعض الكتاب مثل بيتر جاي مؤرخ حركة الاستنارة التي يسميها هو نفسه الوثنية الحديثة. على الإجمال فإن مصطلح ومفهوم العلمانية خضع للخطاب العلماني أكثر مما خضع للتحقق العلمي وبقيت العلمانية من أكثر المفاهيم التباساً مما جعلها عرضة للتجاذبات على اعتبار أن كلمة علمانية انطبعت بالاستخدام المسيحي الكنسي في العصر الوسيط. فتعريفات العلمانية اليوم تتعدد بتعدد الخلفيات الفكرية والثقافية والحقول المعرفية والفلسفية وعلماء الاجتماع وعلماء السياسة والنحل والفرق والمذاهب، وتقاطعت ما بين المتكلمين والمؤرخين وعلماء العقيدة والفقهاء والمناطقة والفلاسفة.